مشروع التقرير الاقتصادي والاجتماعي للمؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد وثيقة وطنية لمفصل تاريخي هام في سورية

اعتاد المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الموحد أن يطرح للنقاش العام مشروعات تقاريره السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل إقرارها بصيغتها النهائية في مؤتمراته الحزبية، وهذه العادة تشكل سابقة، بلا شك، في تواصل الحزب السياسي مع أعضائه وأنصاره وأصدقائه.. وهذه السابقة- نحن السوريين- في أشد الحاجة إليها، خاصة في مثل الحالة التي نمر بها، والتي تحتاج إلى أكثر من وقفة مراجعة ترقى بجديتها إلى حجم الكارثة التي تمر بها سورية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.

وربما تكون الفائدة أكبر، لو أن مشروع هذا التقرير جاء مرفقاً بمشروع التقرير السياسي، لكان الأمر أكثر استيعاباً لما جرى ويجري، ولما يمكن أن تكون عليه الحلول في جوانبه المختلفة، خاصة في ارتباط العوامل السياسية بالاقتصاد وقضايا المجتمع.

على أي حال، فإن القارئ يتلمس من مشروع التقرير الاقتصادي والاجتماعي، الأبعاد السياسية التي يمكن أن تضيء الطريق لجوانب الأزمة كافة.

يشمل مشروع التقرير الاقتصادي والاجتماعي مقدمة وأربعة محاور هي:

أولاً- الوضع  الاقتصادي والاجتماعي قبل الأزمة

ثانياً- الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة.

ثالثاً- الإجراءات والتدابير الحكومية لمواجهة الأزمة، وبضمن ذلك موقف الحزب من هذه الإجراءات.

رابعاً- المهام والتوجهات المستقبلية وموقف الحزب.

وإذا كنت ألتقي مع التوجهات العامة، التحليلية والتقديرية، للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يعرضها مشروع التقرير، وكذلك مع تلمسه للمهام والتوجهات المستقبلية، فإنني أعرض هنا الإضاءات التي قد تكون مفيدة لإغناء التقرير وتعميق بعض أفكاره.

 أولاً- يقول مشروع التقرير (إن المتابعة الموضوعية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية خلال السنوات العشر التي سبقت نشوب الأزمة، تبين بشكل لا لبس فيه أن الآثار والنتائج التي نجمت عن سياسات الانفتاح (غير المدروس) ساهمت في زرع بذور الأزمة).

لا شك أن هذا الاستنتاج صحيح ويدل على تحليل موضوعي دقيق، إلا أني أود أن أوضح الأمر، فأذهب إلى أبعد من ذلك، فأقرر أن سياسات الانفتاح كانت مدروسة ومخططة ومستهدفة، فبعد أن فشلت جميع المحاولات السياسية لحرف سورية عن دورها وأهدافها الوطنية والقومية، وبعد أن صمدت أمام الضغوط والعقوبات الاقتصادية (بدأت في الثمانينيات وليس بعد ذلك) تقرر استخدام (المدخل الاقتصادي) لتدمير سورية اقتصادياً واجتماعياً، وإعداد (مسرح) العمليات العسكرية والإرهابية، وتهيئة المناخ المناسب للتدمير السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي، وذلك بالدفع باتجاه سياسات الاقتصاد  الليبرالي.

ولابد لي هنا من التذكير بأن التوجه نحو اقتصاد السوق وانتهاج السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، هو بند أساسي في مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الواسع (الأمريكي الذي عرضه الرئيس الأمريكي بوش كتطوير لمشروع الشرق الأوسط الجديد الإسرائيلي الذي كان قد عرضه بيريز في منتصف تسعينيات القرن الماضي)، وكذلك فإن مشروع الشراكة المتوسطية الأوربية ينص صراحة على التوجه نحو اقتصاد السوق (1)، ويلتقي ذلك كله مع أهداف منظمة التجارة العالمية التي سعى الفريق الاقتصادي السابق للانضمام إليها بناء على مصالح المؤسسات المالية الدولية وتوصياتها. وإذا كانت سورية الدولة والشعب قد رفضت مشروع بوش، ولاحقاً رفضت شروط الانضمام إلى الشراكة الأوربية، فإن هذا الرفض جاء سياسياً، في حين أن السياسات الاقتصادية المتبعة ذهبت بعيداً في تبنيها للسياسات الليبرالية، فكان طرح شعار (تحرير التجارة الخارجية قاطرة النمو)، ثم شعار (السياحة قاطرة النمو) تعبيراً عملياً للسياسات الليبرالية الانفتاحية، وهذا باعتقادي لم يكن قراراً (غير مدروس)، إنما هو يأتي مكملاً للضغوط الاقتصادية والسياسية، وهو استكمال للبنود السياسية والعسكرية كافة، وهو يشكل، مع ما خلقه من أجواء فساد وإفساد، الوجهَ الآخر لأعمال الإرهاب التي أشعلتها النتائج الكارثية للسياسات الليبرالية، وخاصة البطالة والفقر والممارسات البيروقراطية والأمنية، مع ما رافقها من ضخ إعلامي وثقافي وتكفيري.

 

 ثانياً- عرض مشروع التقرير للآثار الاقتصادية والاجتماعية، وكان عرضاً واقعياً ولافتاً، ولي في هذا المجال ملاحظتان:

الأولى: أنه بالإمكان الحصول على أرقام ومعلومات أدق وأحدث بمتابعة بعض التقارير لمنظمات دولية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع النازحين إلى البلدان المجاورة. ولعلي هنا أشير إلى مسألة في غاية الخطورة، وهي التعليم الذي يتلقاه الأطفال في كل من تركيا والأردن وحتى في لبنان، وما يمكن أن يخلقه هذا النوع من التعليم من أجيال جديدة يحملون ثقافة مغايرة لثقافة الوطن الأم، هذا فضلاً عما تفرزه (معسكرات) النازحين من علاقات اجتماعية مشوهة.

الثانية: أن أهداف (الأزمة) الكارثية تتبلور في هدف مركزي هو إضعاف الدولة السورية، بحيث يجعلها أكثر قابلية لضغوط الخارج، ويأتي في مقدمة الأهداف المرجوة للأحداث إضعاف قدرة القوات المسلحة السورية وشلّها، ويتم ذلك لمصلحة العدو الإسرائيلي، وإضعاف الاقتصاد السوري كرديف للقوة العسكرية، نتيجة للسياسات الاقتصادية الليبرالية، وبالتالي وقوع الاقتصاد الوطني في قبضة المؤسسات الدولية والشركات متعددة الجنسية.

 ثالثاً- أصاب مشروع التقرير عندنا ربط عدم وجود رغبة حقيقية ومرونة فعلية لدى الجهات الحكومية المسؤولة لمعالجة الجانب السياسي من الأزمة من خلال الحوار الوطني الحقيقي، وعدم الكفاءة الواضحة في معالجة آثار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، مشيراً إلى (الاستقراء الخاطئ بقدرة الحل العسكري في التغلب السريع على الأزمة).. مما أدى إلى زيادة الآثار السلبية للإجراءات الحكومية المتمثلة في متابعة النهج الاقتصادي الليبرالي الذي كان متبعاً قبل الأزمة.

وقد تعرض مشروع التقرير لأهم التوجهات في السياسات الاقتصادية المتبعة خلال الأزمة، والتي رآها مثاراً للمخاوف الجدية حول التعامل مع القضايا الاقتصادية والخدمية في هذه الفترة وفي مرحلة إعادة الإعمار. وهنا يوجه الأنظار إلى الخشية من أن تجري عملية إعادة الإعمار على غرار التجربة اللبنانية، وهذه ملاحظة ذكية وضرورية للوقوف على ما يحاك في زوايا وكواليس المؤسسات الدولية والشركات متعددة الجنسيات وبعض رجال الأعمال السوريين.. وهنا أشير إلى أهم ما يميز (التجربة اللبنانية) ليكون الجميع على معرفة دقيقة بما يجري، فهذه التجربة تقوم على مبدأين أساسيين هما:

الأول- الاستناد إلى النظرية الاقتصادية الليبرالية في الاقتصاد الذي يعتمد على اقتصاد سوق منفلت من أية قيود.

الثاني- هو الاعتماد على القروض الخارجية لتمويل مشاريع إعادة الإعمار.

وقد أدت هذه السياسات في لبنان إلى:

– انتشار أوسع للفقر والبطالة.

– انتشار أكبر للفروق في الثروة والدخول.

– تركز الثروة في يد القلة.

– تنفيذ سيئ للمشاريع.

– غرق الاقتصاد اللبناني بالديون الخارجية والداخلية.

– العجوزات المتراكمة في الموازنة العامة وفي الموازين التجارية.

ويشير مشروع التقرير الاقتصادي والاجتماعي في هذا الصدد إلى مسألة إقرار مشروع قانون التشاركية من قبل الحكومة، وفي هذا الوقت بالذات، ومعارضة الحزب لهذا القانون. وإذ أُثني على هذا الموقف، لابد لي من الإشارة إلى أمر غاية في الأهمية تأكيداً لهذا الموقف.

إن التشاركية من حيث المبدأ لا غبار عليها، خاصة عندما ترتبط مع جانبها السياسي، فتشكل حينذاك مشاركة شعبية واسعة في السلطة وفي الثروة، وعندما نتوجه نحو المشاريع الإنتاجية.

والمشاركة فيما بين القطاعين العام والخاص ليست جديدة في سورية، وفي القوانين الحالية ما يسمح ويشجع على ذلك، فهناك المرسوم التشريعي رقم 10 لعام ،1986 لمشاركة القطاعين في المشاريع الزراعية، وهناك مجموعة قوانين تشجيع الاستثمار، ولا ننسى أن عقود الخدمة في مشاريع النفط هي نوع من التشاركية.

إذاً، لماذا تصر الحكومة على وضع وتشريع قانون خاص تحت عنوان (التشاركية)؟ والجواب على ذلك يكمن في أن هذا القانون يتوجه على نحو خاص نحو مشاريع البنية التحتية ومشاريع المرافق العامة، وهذه المشاريع هي عنوان لـ:

1- سيادة الدولة.

2- دور الدولة الاجتماعي.

والتشاركية هنا تريد انتزاع آخر معاقل سيادة الاقتصاد الوطني، والإلغاء الكامل لدور الدولة الاجتماعي.

أذكر هنا إلى أن من أوائل القرارات الاقتصادية السياسية التي أصدرتها حكومة الاستقلال هي قرارات تأميم شركات الكهرباء والتروماي التي كانت تملكها شركات فرنسية وبلجيكية.

إن سيطرة الدولة على مشاريع البنية التحتية (الطاقة والمرافئ والموانئ) يعتبر من العناوين الأساسية للسيادة الوطنية، ذلك أن هذه المشاريع على صلة مباشرة بالأمن القومي، ولابأس من التذكير بقيام الكونغرس الأمريكي (عنوان الاقتصاد الليبرالي الحر) بإلغاء المناقصة التي رست على شركة إماراتية لإدارة مرفأ نيويورك، والأسباب الموجبة لهذا الإلغاء هي: مساس المرفأ بالأمن القومي الأمريكي.

وهنا أيضاً علينا أن نتذكر كيف أن شركات الخدمة البترولية التي قامت بين شركات أجنبية وشركة النفط السورية، ألغتها تلك الشركات رضوخاً لقوانين العقوبات الاقتصادية على سورية التي أوقعتها الحكومات الأجنبية التابعة لها تلك الشركات، في بداية الأحداث المؤلمة، مما أدى إلى إلحاق الضرر بعملية استخراج النفط، فكيف لنا أن نسلم مفاتيح اقتصادنا إلى الشركات  الأجنبية (حتى وإن جاء ذلك تحت عنوان التشاركية بين القطاعين العام والخاص، لأن القطاع الخاص السوري سوف يكون مجرد واجهة للشركات الأجنبية بحجة الحاجة إلى التمويل وإلى التكنولوجيا).

وبدلاً من ذلك، لماذا لاتتوجه الحكومة إلى معالجة القضايا الاقتصادية الملحة، فتوجه الإمكانات البشرية والمادية إلى فعاليات حقيقية ترفد ما تقوم به القوات المسلحة، فإن كنا في حالة حرب، لماذا لا يعلن عن اقتصاد حرب، فتوجّه الجهود كافة إلى تعزيز القوات المسلحة ودعمها؟!

 

 رابعاً- في المهام والتوجهات المستقبلية وموقف الحزب:

لاشك أن مشروع التقرير قد أصاب في وضعه التوصيات أو المقترحات الـ25 تحت هذا العنوان، فهذه التوصيات والمقترحات تأتي تتويجاً للانتهاء من الحالة الكارثية التي وصل إليها وضع الاقتصاد الوطني في نهاية الأعمال والأحداث.

وكما كان من المأمول خلال الأحداث الدامية الإعلان عن حالة الحرب وانتهاج سياسات اقتصاد الحرب تأكيداً لقبضة الدولة على مفاصل العملية الاقتصادية، فإن المرحلة التي تتلو تلك الأحداث، والتي نأمل مع ما يأمله مشروع التقرير وموقف الحزب، أن تكون مرحلة الانتقال إلى نظام وطني ديمقراطي تعددي سياسياً واقتصادياً، مما يقتضي ويستوجب وجود دولة قوية تستطيع إحكام قبضتها وإقرار حكم القانون، وتحقيق عملية إعادة الإعمار، وتعيد إلى المواطن الشعور بالأمان. ونرى أن من أولى المهام التي على الحكومة الوطنية مواجهتها هي إعادة النازحين واللاجئين من خارج البلاد وداخلها، والعمل على تأمين مستلزمات عودتهم الكريمة إلى ديارهم، وتكاتف الجهود الحكومية والأهلية لإعادة اللحمة الاجتماعية إلى النسيج الوطني. وأمام ضخامة الحاجة إلى التمويل من أجل إعادة الإعمار وإعادة دورة الإنتاج الزراعي والصناعي والحرفي، يطرح البعض مسألة التمويل ذريعة لإعادة سيطرة رأسمال الأجنبي ورجال الأعمال المرتبطين به والمؤسسات المالية الدولية. وهنا نشير في هذه العجالة إلى أن موضوع التمويل لن يكون عقبة، ومن السهل أن تحصل عليه الحكومة الوطنية، خاصة إذا ما حققت تعبئة المدخرات الوطنية واستعادة الأموال المنهوبة والمهربة، وإعادة سيطرة الدولة على القطاعات الاقتصادية (كقطاع الطاقة وقطاع الاتصالات)، هذا فضلاً عن الإصرار على تحصيل تعويضات من الدول والجهات المسببة للدمار، والاستعانة بالدول الصديقة وبوسائل تمويلها في إطار دول البريكس ومنظمة شنغهاي وبنك الاستثمار في الصين.

 

 

(1)- اقتصاد السوق يقوم أساساً على مبدأ ترك قوى السوق تعمل دون تدخل من الدولة، فاليد الخفية توفق بين المصلحة العامة والمصلحة الفردية. للمزيد من المعلومات يمكن مراجعة كتاب المؤلف (الثقافة الاقتصادية….).

العدد 1104 - 24/4/2024