قراءة تفاعلية في وثيقة بالغة الأهمية

يصدر المكتب السياسي للحزب الشيوعي الموحد من حين إلى آخر تقارير وبيانات اقتصادية تتسم بالموضوعية في العرض والتحليل، ولا تخلو من مقترحات هامة لمعالجة مسائل ومشاكل، يعاين بها الاقتصاد السوري.. لكن مشروع التقرير الاقتصادي والاجتماعي الذي أقره المكتب السياسي للحزب والذي سيقدم إلى المؤتمر الثاني عشر للحزب يكتسب أهمية خاصة.

فمشروع التقرير الذي أعتزم قراءته بطريقة تفاعلية، يتميز بشموليته في تعاطيه مع الأزمة السورية، بدءاً بالوضع الاقتصادي والاجتماعي قبل الأزمة، انتهاء بالمهام والتوجيهات المستقبلية وموقف الحزب، مروراً بالآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة والتدابير الحكومية لمواجهتها.

لقد بات من المسلّم به أن (سياسات الانفتاح غير المدروس ساهمت في زرع بذور الأزمة) وأدت تلك السياسات لا إلى انحسار دور الدولة في التجارتين الداخلية والخارجية وفي الخدمات الصحية والتعليمية والنقل والمصارف) فقط، بل أدت كذلك إلى (بروز شراكة وتحالف قوى بين مجموعات من الرأسماليين مع رموز متنفذة في السلطة هنا وهناك.. حتى أصبح الفساد ظاهرة تجد من يبررها في كل مكان وعلى مختلف المستويات، وعندما استفحلت هذه الظاهرة كانت معالجتها الشكلية والجزئية تتم ضمن المستويات الدنيا، وظلت الرموز الكبيرة تسرح وتمرح وتراكم الثروات والنفوذ على حساب الغالبية الساحقة من المواطنين).

وكان من شأن ارتفاع منسوب البطالة والأسعار والفقر وسوء توزيع الدخل والثروة والفساد، وتهميش الغالبية العظمى من المناطق والسكان وضيق الهامش الديمقراطي للمواطنين في حرية التعبير ورسم السياسات وإدارة البلاد، أن وفّر للقوى الإقليمية والدولية المداخل المناسبة للنفاذ إلى العمق السوري لتحقيق مخططاتها في السيطرة على سورية أو تدميرها إذ تعذر السيطرة عليها.

وغني عن القول أن حجم الدمار الذي أصاب البنى التحتية والمرافق العامة والطاقات الإنتاجية الزراعية والصناعية والمنشآت السياحية والتعليمية والصحية والمواقع الأثرية والموارد الطبيعية والقوى البشرية لم يسبق له مثيل، إذ كانت الولايات المتحدة الأمريكية ودول غربية وعربية، إضافة إلى تركيا والكيان الإسرائيلي، مسؤولين عن الدمار الذي حصل بسبب الحرب الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية والأمنية التي تشنها على سورية ودعمها للمجموعات الإرهابية، فإن تعاطي الحكومات السورية المتعاقبة مع مخاطر تلك الحرب لم يساعد على التخفيف من شدة آثارها السلبية على الاقتصاد والمجتمع والمواطنين.

إذ إن الإجراءات (جاءت في كثير من الأحيان مجتزأة ومتأخرة وبطيئة التنفيذ وتعتمد سياسة العمل وإطفاء الحرائق يومياً بيوم، دون التطرق إلى سياسات وإجراءات متكاملة تستند إلى رؤية واقعية ومستقبلية لاحتمالات تطور الأحداث واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لمنعها أو الحد من تأثيرها عن حدوثها).

وليس أدل على ذلك من السياسة التي اعتُمدت حيال ارتفاع سعر الدولار منذ بداية الأزمة (والتي اتسمت بالارتجال وردود الفعل والتهاون مع مركز الفساد التي مثلتها شركات الصرافة، إذ بدلاً من التحكم في جانب الطلب على الدولار عن طريق حصر الاستيراد في السلع الغذائية الضرورية ومستلزمات الإنتاج والمواد الأولية للصناعة والزراعة، لجأ مصرف سورية المركزي إلى التدخل في جانب العرض بطريقة استعراضية أدت إلى تدهور كبير في قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار، وصل حتى الآن إلى ستة أضعاف ما كانت عليه قبل الأزمة).

ما يدعو للاستغراب حقاً هو إصرار الحكومة السورية على (متابعة النهج الاقتصادي المنفتح وغير المدروس الذي ساد قبل الأزمة، وكان واحداً من أسبابها).. ومع استمرار الحكومة في السير على هذا النهج تستمر الأسعار في الارتفاع بمعدلات عالية وبوتائر متسارعة، وتستمر القدرة الشرائية لليرة السورية للتآكل كل يوم، ويستمر العاطلون عن العمل في التزايد، ويستمر عدد الفقراء في التعاظم، ويستمر تجار الأزمة والحرب في مراكمة الثروة.

إذا كان اتباع النهج الليبرالي، ولاسيما النموذج غير المحسوب والمنفلت في الظروف العادية مسألة خلافية بين الاقتصاديين، فإن إيقاف العمل بالنهج الليبرالي في ظروف الحرب الاستثنائية هو أمر متفق عليه بينهم حتى من قبل عتاة الليبراليين، فالظروف الاستثنائية للحرب تقتضي تطبيق سياسات وقواعد وآليات تختلف جذرياً عن تلك التي تطبق في الظروف العادية، إذ تستدعي ظروف الحرب تدخلاً مباشراً من قبل الدولة في جميع المجالات والقطاعات الاقتصادية، يبدأ من عملية تخصيص الموارد المتاحة للاستثمارات المختلفة، ويمتد إلى تجارة التجزئة مروراً بتوزيع المواد الأولية والتجهيزات واليد العاملة على الفروع الصناعية المختلفة وتحديد الأهمية النسبية للمشاريع، وبذلك يتحول النظام الاقتصادي من نظام تلقائي يسير وفقاً لجهاز الثمن وأسعار السوق إلى نظام آخر يتسم بطابع التوجيه الحكومي، إذ مهما بلغ جهاز الثمن من كفاءة في أوقات السلم، فإنه لا يصلح لأداء مهمته على الوجه المرغوب في أوقات الحرب، فجهاز الثمن لا يحقق التوزيع العادل لمختلف السلع في مجال التبادل، لذا لابد من وجود جهاز حكومي يقوم بالدور الذي يلعبه جهاز الثمن، ويخضع الموارد لإشراف الدولة إشرافاً مباشراً بغض النظر عن دافع الربح.

مهما يكن من أمر في سياق النهج الليبرالي الذي تسير الحكومة السورية على منواله (شهدت فترة الأزمة وماتزال جولات نوعية في الانفتاح غير المدروس على القطاع الخاص.. واتباع الأسلوب غير الشفاف في معاجلة القضايا واتخاذ القرارات لصالح شخصيات محددة مسبقاً، يشير بوضوح إلى عدم استيعاب الدروس المستخلصة من الأزمة وعدم الاستفادة منها بالشكل المطلوب)، ولعل خشية المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الموحد من زرع بذور أزمة جديدة جعلته يحذر في تقريره الذي أعده للمؤتمر الثاني عشر للحزب من اتباع مثل تلك السياسات والإجراءات.

بعد انقضاء ما يزيد عن أربعة أعوام على بداية الأزمة السورية، ومع تصاعد المخاطر الناجمة عن الحرب العدوانية وتفاقم الصعوبات التي تواجه الاقتصاد السوري وتعاظم المعاناة المعيشية للمواطنين، ما تزال الألبسة الأوربية الفاخرة والماركات منها تعرض في المحال التجارية وحتى المنتجات التركية لايزال لها حضور محلوظ في الأسواق السورية، ويصر وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية على أن جميع السلع الأجنبية الموجودة في الأسواق المحلية وتحديداً الألبسة والماركات منا مهربة ولم تدخل البلاد على نحو نظامي (جريدة (الأخبار) اللبنانية 20/4/2015)، إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تقوم الوزارة بمصادرة السلع المهربة وملاحقة أصحاب المحال التي تعرضها قضائياً للحد من عمليات التهريب وعدم التشجيع عليه؟

بدلاً من ذلك صدر مرسوم يعفي التجار من أي غرامات في حال مبادرتهم إلى التصريح عن البضائع غير النظامية الموجودة لديهم، ودفع الرسوم المترتبة عليها للحصول على البيانات الجمركية النظامية ((الأخبار) اللبنانية 20/6/2015).

واللافت أن وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية قد قررت بعد دخول الأزمة السورية عامها الخامس، أن تتبنى مبدأ الأولويات لاستيراد سلة غذائية موسمية، ومنح إجازات استيراد للمواد الغذائية ومستلزمات إنتاج السلع الغذائية (صحيفة الثورة 21/6/2015). تتساءل لو أن هذا القرار قد اتخذ قبل أربعة أعوام، كم من الخسائر كنا ستجنب الاقتصاد السوري؟! وكم من المشاق والآلام كنا سنخفض عن كاهل غالبية المواطن؟! وكم من المنافذ كنا سنغلق في وجه الفساد؟! وكم من المنعة والقوة كنا سنوفر لسورية الدولة والوطن؟

تدخل الأزمة السورية عامها الخامس وليس ثمة ما يشعر باحتمال انتهائها في القريب العاجل، بل هناك ما يشير باحتمال تعاظم شدة الحرب العدوانية التي تُشَنّ على سورية، ما يستدعي إجراء مراجعة للسياسات والممارسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة بهدف تعزيز قدرة سورية على الصمود.

ومما لاشك فيه أن المهام والتوجهات المستقبلية التي اشتمل عليها التقرير الاقتصادي والاجتماعي للمؤتمر تنطوي على قضايا شديدة الأهمية يتعين أخذها بالحسبان، كما يقتضي وجود حكومة قوية بحجم المهام المطلوب إنجازها، وقادرة على مواجهة رموز الفساد وتجار الأزمات والحروب، وذلك للحفاظ على سورية دولة ووطناً وموقفاً، وكذلك كي لا تذهب دماء الشهداء من مدنيين وعسكريين، وآلام المواطنين وعذاباتهم في الداخل والخارج أدراج الرياح أيضاً.

العدد 1105 - 01/5/2024