«قلب بلون ياسمين دمشق»

قلائل هم الرجال الذين يجمعون في شخصيتهم ألواناً متعددة، يتحلّون بروح النكتة، وشفافية التذوّق، ويجمعون بين العمل السياسي الوطني، والاهتمامات الفنيّة والأدبية بأنواعها المتعددة.

فخري بيك البارودي، وحيّ القنوات في دمشق، وبيته الكبير الذي يحمل في فضائه روائح دمشق، يعبره فرع من بردى، وأشجار الشام الساحرة المترفة بالسحر والجمال، وألوان من الغناء الأصيل، ومساءات يجمع فيها نُخباً من الفنانين والأدباء يتبادلون المعرفة والسهر البريء.

هو فخري بيك البارودي، الذي اشتهر بحسّه الوطني والإنساني، فكان أول من نادى على مشروع (الفرنك) في عام 1934 على أن يتبرّع كل مواطن شهرياً على الأقل ب (فرنك) أي خمسة قروش سورية في ذلك الوقت، وذلك من أجل تحقيق التعاون بين الناس، ودعم جهود الدعاية لقضية العرب المركزية قضية فلسطين، وتوصيل ثقافتنا إلى العالم.

ولد البارودي في مدينة دمشق عام ،1889 لأسرة ثريّة، فقد كان والده من أعيان دمشق، ولأسرته مكانتها الاجتماعية والسياسية والوطنية.

درس فخري البارودي في أحد الكتاتيب، ثم انتقل إلى المدرسة العازرية، ثم إلى مكتب عنبر وحصل على الشهادة الثانوية، وانتسب إلى كلية الحقوق عام 1929 وأكمل دراسة السنة الأولى، وفي الأثناء، درس العلوم الزراعية في فرنسا عام 1911.

كان شغوفاً بالعمل السياسي الوطني، وعضواً في جمعية (العربية الفتاة)، وفي حزب الكتلة الوطنية فيما بعد، وقد قام البارودي بإنشاء تنظيم أطلق عليه (لقمصان الحديدية) وقد أطلقوا على البارودي (زعيم لشباب) فقد كان قادراً على تحريك الشارع، وتنظيم مظاهرة، وإغلاق مدارس بإشارة منه، وانتخب نائباً عن مدينة دمشق في الجمعية التأسيسية عام 1938 ونائباً أيضاً في مجلس النواب لثلاث دورات.

البارودي أول من نادى بمقاطعة البضائع الأجنبية للدول المعادية لتطلعات الشعب السوري، وكان من أهم المشجعين للصناعات الوطنية.

وقد عمل في المجال الصحفي مع الأستاذ محمد كردعلي، وأصدر مجلة ساخرة بعنوان (حطّ بالخرج). 

أما في المجال العسكري فقد شارك البارودي في الحرب العالمية الأولى، وكان يحمل رتبة  ملازم في الجيش العثماني، وأُسرَ في منطقة بئر السبع في فلسطين، ثم التحق بالجيش العربي واشترك في الثورة العربية الكبرى، وعيّن بعد دخول الأمير فيصل إلى دمشق مديراً للشرطة وقائداً للموقع الأميري، إلى أن أصبح المرافق الرسمي للأمير فيصل إبان توليه عرش سورية.

كان فخري البارودي أول من أنشأ مع بعض رفاقه (النادي الموسيقي السوري) في عام ،1928 وأنشأ في عام 1947 (معهد الموسيقا)، وكان يقوم بدعم هذه النشاطات من ماله الخاص وإشرافه المباشر، وكانت داره في حي القنوات محجّاً للفنانين والأدباء، وقد ترك لنا آثاراً أدبية مهمة في ميادين شتى فكرية وأدبية وفنية.

من المؤسف أن كتابه الضخم عن تعليم النوتة الموسيقية بالطريقة التي ابتكرها هو شخصياً قد احترق يوم احترق منزله في 18/7/1963.

ولعلّ النشيد الشهير الذي ما يزال يتردد في أرجاء الوطن العربي خير وسام يتعلّق على صدر فخري البارودي الذي قال فيه: (بلاد العرب أوطاني)…

حادثة احتراق مكتبته الثمينة التي حرص على مسيرة ستين سنة على أن تكون مكتبة مهمة تراثياً وأدبياً وتوثيقاً، شكّلت ضربة قاسية تعرّض لها فخري بيك البارودي جعلته كئيباً وحزيناً ومحبَطاً إلى أن وافته المنيّة في عام ،1966 ودفن في مدينة دمشق، المدينة التي أعطاها زهرة عمره فأعطته الحب والوفاء.

مذكرات البارودي وثيقة حيّة لحياة رجل متفرّد بطاقته وتعدد مواهبه ووطنيته وحسّه المرهف.

شكر خاص لمديرية آثار دمشق التي كرّمت البارودي بأن جعلت من داره الكبيرة في القنوات، معلماً أثرياً بارزاً.

العدد 1107 - 22/5/2024