لماذا كان ماركس محقاً؟

لم يؤمن الماركسيون أبداً بتحقيق الاشتراكية في بلد لوحده. إما أن تكون الحركة دولية أو لا تكون. كانت هذه النظرية مادية واقعية وليست نظرية مثالية. فإذا لم تنجح الدولة الاشتراكية في الحصول  على الدعم الدولي في عالم تخصص فيه الإنتاجُ وجرى توزيعُه بين بلدان مختلفة، فلا شك في أنها ستُحرم بالضرورة من الموارد العالمية التي تحتاج إليها للتغلب على النقص الحاصل لديها. لن تكون قدرة الدولة الواحدة كافية لإنتاجٍ كافٍ. اخترع ستالين المفهوم الغريب (الاشتراكية في بلد واحد) في عشرينيات القرن العشرين، إلى حدٍّ ما، كردٍّ ساخرٍ على عجز بلدان أخرى عن تقديم المساعدة للاتحاد السوفييتي، لم يعتمد على ماركس في ذلك. طبعاً، على الثورة الاشتراكية أن تنطلق من نقطة ما. ولكن، لا يمكن إتمامها داخل حدودها الوطنية. إن إصدار الحكم على الاشتراكية على أساس نتائجها في بلدٍ واحد معزول يُرثى له، يشبه تعميم نتائج دراسة عن مصابين بمرضٍ نفسي في كالامازو Kalamazoo  على الإنسانية بأسرها (كالامازو مدينة صغيرة في ولاية ميتشيغان في الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة من المترجم).

إن النهوض بالاقتصاد القومي وتطويره من مستواه المتدني للغاية، مهمة شاقة، وربما مخيّبة للأمل. ومنغير المتوقع أن يتطوّع رجال ونساء كثيرون لبذل الجهود اللازمة لتحقيق هذه المهمة. وعندما لا يتمّ إنجاز هذا المشروع تدريجياً، وتحت مراقبة ديمقراطية صارمة، وبانسجامٍ تامّ مع القيم الاشتراكية، فقد تتدخل الدولة بديكتاتوريتها وتجبر مواطنيها على القيام بالعمل الذي لم يكونوا مستعدين للقيام به طوعاً. وهذا ما حدث في روسيا البلشفية عن طريق عسكرة العمل، وهو الأمر الذي هدّم على نحوٍ سافرٍ وخطير، عند محاولة بناء القاعدة الاقتصادية، البنية السياسية الفوقية الخاصة بالاشتراكية (ديمقراطية الشعب والحكم الذاتي الحقيقي). إن ذلك يشبه دعوة شخصٍ إلى حفلةٍ يُطلب فيها منه، ليس صنع الكاتو والبيرة فحسب، بل حفر الأساسات ونصب القالب الخشبي أيضاً. عند ذاك لن يكون لديه الكثير من الوقت للتسلية.

في الوضع المثالي، تحتاج الاشتراكية إلى مواطنين مؤهلين ومثقفين ومطَّلعين على الشؤون السياسية، وإلى مؤسسات حكومية فاعلة، وتقانة متطورة جداً، وتقاليد ليبرالية ومتنوّرة، وعادات ديموقراطية متأصّلة. يرجَّح عدم وجود أي شيء من هذا القبيل، عندما تكون الدولة عاجزة حتى عن إصلاح الطرقات العامة القليلة جداً، أو في حال عدم توفّر الضمان الصحي ضد المرض أو الضمان ضد الجوع. وفي البلدان التي كانت سابقاً تحت سيطرة الاستعمار، لن نعثر على الشروط المذكورة هنا، إذ إن الدول الاستعمارية لم تشتهر بمنح مستعمراتها الحقوق المدنية والمؤسسات الديموقراطية.

طالب ماركس بإلحاح بتخفيض ساعات العمل اليومية في النظام الاشتراكي، وذلك لإتاحة وقت الفراغ للناس لإطلاق مواهبهم، من ناحية، ولإعطائهم الوقت الكافي للحكم الذاتي اقتصادياً وسياسياً، من ناحية أخرى. وهذا لا يمكن تحقيقه، إذا كان الناس يرتدون الخرق. لكنَّ توزيع الملابس على ملايين المواطنين يحتاج إلى دولة بيروقراطية مركزية، وإذا هاجم مثل هذه الدولة، علاوة على ذلك، عدد من جيوش الدول الرأسمالية المعادية، كما حدث في روسيا بعد الثورة البلشفية مباشرة، فيبدو أنه لا محالة من إقامة دولة استبدادية.

 في الحرب العالمية الثانية، لم تكن بريطانيا دولة استبدادية على الإطلاق، لكنها لم تكن بلداً حراً أيضاً، الأمر الذي، لم يتوقعه أحد منها.

من يريد أن يصبح اشتراكياً، يجب أن يكون غنياً إلى حدٍّ ما، بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة. ولم يحلم أيُّ ماركسي قطّ، بدءاً من ماركس وأنجلز إلى لينين وتروتسكي، بشيء آخر. أما في حال عدم امتلاك الوسائل الكافية، فيجب أن يكون هناك جار متعاطف ولديه الوسائل الكافية ويقدّم المساعدة اللازمة. في حالة البلاشفة، كان من المفروض أن تقوم عند هؤلاء الجيران (لا سيما ألمانيا) ثورات أيضاً. ولو نجحت طبقات العمال في هذه البلدان في التخلص من سادتهم الرأسماليين والاستيلاء على وسائل الإنتاج، لاستطاعت حماية الدولة العمالية الأولى في التاريخ من الاختفاء، من غير أن تترك أثراً. لم تكن هذه الفكرة بعيدة كما قد يبدو. حينذاك ظهر في كل أوربا شعاع من أمل في الثورة أدّى، في مدن مثل برلين ووارسو وفيينا وميونخ وريغا، إلى تشكيل مجالس عمّالية وعسكرية (السوفييت). وعندما تمّ قمع هذا التمرد، أدرك لينين وتروتسكي أن ثورتهم الخاصة بهم قد تورطت في مشكلات كبيرة.

ليس معنى ذلك أنه لا يمكن الشروع ببناء الاشتراكية في ظروف صعبة. ولكن من دون موارد مادية، سوف تتعرض لخطر الانحطاط والتحوّل إلى ذلك الكاريكاتير من الاشتراكية المشوَّهة التي نسميها ستالينية. لم يمض وقت طويل حتى هجمت جيوش إمبريالية على الثورة البلشفية، كما هددتها ثورة مضادة، ومجاعة في المدن، وحر ب أهلية. وكانت محاطة بجمهور من صغار الفلاحين، معظمهم عدوانيّون لم يسلّموا فائض منتجاتهم الزراعية، الذي حصلوا عليه بجهد كبير، إلى المدن الجائعة إلا بقوّة السلاح. وهكذا كانت الثورة متورّطة في مشكلات ضخمة، بسبب القاعدة الرأسمالية الضئيلة والقوة الإنتاجية المتدهورة، وبداياتٍ لا تُذكر من مؤسساتٍ مدنية وطبقة عمالية ممزقة ومرهقة، وتمرّد فلاحين، وبيروقراطية منفوخة تُذكِّر بالأيام القيصرية.

في نهاية المطاف، كان على البلاشفة إدخالُ شعبهم الجائع والخائف والمُضنى من الحرب بقوة السلاح إلى الحداثة. قُتل العديد من أنشط العمال سياسياً في الحرب الأهلية المؤجَّجة من الغرب، ممّا أضعف قاعدة الحزب البلشفي الاجتماعية بشكل حاسم. وبدأ الحزب بعد فترة وجيزة بمراقبة المجالس العمالية ومنع الصحافة الحرة والقضاء الحر. وقام بقمع أصحاب الرأي السياسي الآخر والأحزاب المعارضة، كما زوّر الانتخابات وعسكر قطاعات العمل. تمّ إدخال هذا البرنامج القاسي غير الاشتراكي على خلفية الحرب الأهلية والمجاعة المتعاظمة وغزو الجيوش الأجنبية، فتحطّم الاقتصاد الروسي وأصبحت البنية الاجتماعية في حالة انحطاط. وأضحت الاشتراكية، بسخريةٍ مأساويةٍ ميَّزت القرن العشرين كلَّه، أقلَّ نجاحاً، حيث كان العالم في أمسّ الحاجة إليها.

يصف المؤرخ إسحاق دويتشرIsaak Deutscher) ) هذا الوضع بفصاحته الخاصة به: كان الوضع في روسيا في ذلك الوقت بمثابة (المحاولة الأولى والوحيدة لبناء الاشتراكية في أسوأ الشروط الممكنة، من دون الاستفادة من تقسيم عملٍ دولي واضح، ومن دون استثمار تأثير الفقر الحضاري العريق والبدائية والخشونة المسيطرة في المجتمع؛ وبذلك وُضعت البذرة لفشل المساعي الاشتراكية).

 إن ناقداً عنيداً للماركسية فقط سيدّعي بأنه لا أهمية لكل هذه الشروط، لأن الماركسية عقيدة استبدادية على كل حال، ولو استولت الماركسية على إنكلترا غداً فسيقام معسكرُ عملٍ في دوركينغ ) –Dorking   قبل نهاية الأسبوع (هكذا يقال عادة).

تأليف تيري إيفلتون

العدد 1107 - 22/5/2024