الوجع الإنساني .. والانتصار

تتكاثف خطوط لوحة الوجع وتتراص مجتمعة ومتحالفة.. ومن يقرأ التجاعيد المخطوطة على وجوه الناس، يعرف أن وراء كل خط وبثرة قضية أو أكثر.

لقد رصد الأدباء عبر التاريخ الوجع الإنساني المتعدد الوجوه والنتائج، سأتوقف عند بعض منها، رغم أنها كثيرة لا تعد ولا تحصى، كما في الصراع الدائر بين الفكر التنويري والفكر الظلامي، في زمن تحوّل العالم إلى قرية صغيرة.

يرصد الروائي أرنست همنغواي في روايته بعنوان (عبر النهر نحو الأشجار) الصادرة عام 1982 الوجع الإنساني. وقد أخذت رواية (العجوز والبحر) متَّسعاً من النقد والشهرة والقراءات المتفقة والمختلفة في تأويلها، وعديد التفسيرات التي تصوّر الصراع بين الإنسان والطبيعة.. وفي النهاية المنتصر هو الإنسان لا على الطبيعة فقط، بل على كل من يشوّه صورته ويعمل على تجهيله وتحقيره وإذلاله من (المتطوعين الجهاديين) القادمين من أقطاب الدنيا.. ومن المستبدين بالرغيف والكلمة والظالمين الذين أفسدوا حياته.

ولا تزال عبارة همنغواي الشهيرة تتردد نظراً لصوابيتها وصحتها ودقّة دلالتها.. قال: (الرجال لم يخلقوا للهزائم.. قد يتحطَّم الإنسان دون أن يُهزم).

يقف بطل الرواية (سانتياغو) الشخصية الوحيدة صامداً جبَّاراً في مواجهة عدوّه (البحر).. وفي صراع مرير مع أسماك القرش.. ويصل صدى صراخه الى الشواطئ التي تنهض مستنفرة.. وتتحرَّك الأمواج العاتية تلطم صخورها وتضرب مركب الصيد بقوة. ويظل سانتياغو يقاوم.. هذا الرجل الذي بقي أربعاً وثمانين يوماً يحلم بصيد سمكة واحدة لكن لم يتحقق حلمه، وظلَّ يقاوم بقوة وصمود رافعاً رأسه نحو العلا.. ولم يقطع الأمل بأن يعود في أحد المساءات إلى المنزل وفي سلّته ولو سمكة واحدة..!

يقول سانتياغو: (أيتها السَّمكة، إنني أحبّك كثيراً وأحترمك، لكنني بالتأكيد سأنال منك). وهكذا يحتدم الصراع.. ويظلُّ أمل الانتصار العنوان الكبير ل همنغواي، الذي يرفض الفشل والهزيمة أمام بحر مهما كان هائجاً.. وأمام أسماك القرش المرعبة.. المهم الاستمرار في المواجهة وعدم الانكسار والتراجع عن المهمة النبيلة والانسحاب من حلبة الصراع.

وفي اليوم الثالث تظهر سمكة ضخمة، ويصمم سانتياغو على المواجهة مهما كانت النتائج.. ويتمكن من السيطرة عليها، لكن أسماك القرش تحاصر المركب ولن تترك المكان إلاَّ بعد أن تنال من السمكة الضخمة .. أسماك جائعة ستفرم الخشب وتبتلع الحديد وسانتياغو معاً..!

يتساءل متابع : لماذا لم يترك سانتياغو المركب ويلجأ إلى أقرب صخرة كي ينجو من هذا الخطر؟

لا يريد سانتياغو أن يعود مهزوماً إلى بيته وأسرته وقريته، فهو والبحر والأسماك – رغم الصراع – أصدقاء يشكلون تحالفاً أبدياً من أجل حياة كريمة.. ويعود الصياد البطل وقد شعر بالانتصار لمجرّد أنه رفض أن يُهزم..!

لقد كان الصراع ثنائياً بين سانتياغو وأسماك القرش من جهة، وبين أسماك القرش والمركب من جهة ثانية. ولم تكتفِ أسماك القرش بأكل السمكة الضخمة ومصمصة عظامها، بل بدأت (تنهش) بالخشب والحديد.. وسحبت المركب نحو القاع وأغرقته..!

هذه هي جدلية الصراع بين الإنسان والطبيعة.. وهذه هي جدلية الصراع الآن في سورية وفي المنطقة، بين الفكر الوهابي- الظلامي التجهيلي، والفكر التنويري الإنساني التقدمي.

إن قوة الإنسان في سعيه وعزمه وتصميمه، من أجل تحقيق أهدافه القريبة والبعيدة والوصول إليها رغم الشرور والفساد وقطاع الطرق والظالمين والمستغلين. ف (الإنسان يمكن هزيمته لكن لا يمكن قهره).

العدد 1107 - 22/5/2024