بين العقلنة والخوف من الآتي

لن أتكلم عن رفع سعر المازوت والبنزين الذي فاجأ الكثيرين، إذ جاء (معايدة) كمعايدة بمناسبة عيد الأضحى، لنصل إلى حد لن يستطيع المسؤولون بعد اليوم الكلام عن أسعار البلدان المجاورة أو التهريب أو عن الدعم لأنه تجاوز كل هذه الحدود في ظل ظروف معايشة واجتماعية أقسى ما تكون، وفي ظل ظروف استثنائية، وبذلك تكمل هذه الحكومة ما أسس له الدردري والعطري وأكمله د.قدري جميل، وليكون الدور للوزير الجديد الصفية لتصل أسعارها إلى حدود خيالية، مع عدم الأخذ بالحسبان الانعكاسات السلبية لهذا القرار على الأسعار التي تعاني أساساً فلتاناً لم يستطع المسؤولون ضبطها رغم ما يوفره ضبطها من نتائج إيجابية على المواطن ومعيشته، ولا يمكن تبرير عدم الضبط هذا إلا محاباة لتجار الأزمة ومن كان يخزن ويحتكر البضائع، وكذلك باستمرار الرشا والنهب الذي يرى الكثيرون أنه الصفة الأهم لكوادر وزارة حماية المستهلك، المستهلك الذي يريد من يحميه من ترهل هذه الوزارة وتقاعسها، وخاصة أن لب المقالة يظهر كيف يمكن ضبط ما يريدونه في أي وقت شاؤوا، وكلنا يذكر أن الجهات المختصة ضبطت سعر الدولار عندما كانت سياسات »المركزي« تشعله وتهبط من عزيمة الليرة موحياً بأنه يتفنن في الحفاظ على الليرة.

 مقالتنا هنا بعيدة عن موضوعي المحروقات والدولار، إنما ستكون باتجاه آخر كنا قد كتبنا منذ سنوات قبل الأزمة عنه ووضعنا حلولاً تبنتها أغلب المؤسسات، ولكن مافيات المعرقلين عطلتها لتحاول استقدام شركات خارجية للموضوع نفسه. موضوع السكن العشوائي الذي كان يشمل نحو 50% من سورية بحلقات تحيط المدن متوزعة بين أبنية لائقة للسكن وتجمعات أبعد ما تكون عن الظروف الطبيعية لسكن البشر أو تفتقر للخدمات التي يجب أن تكون، وقد تطرق حلنا لما يعطي الحق للمالكين ويجمل المدن ويحرك الأسواق ويكسر الأسعار التي لعب بها التجار لتتجاوز المعقول ولتصبح أغلى من الأسعار العالمية، وبما يحقق لهذه التجمعات الخدمات اللائقة. وقد أشرنا آنذاك إلى ما تحتويه هذه المناطق من بؤر نتيجة الظروف القابلة للتطور بكل الاتجاهات، وما تعانيه من أمراض اجتماعية خطيرة كالتسول والدعارة والمخدرات والجريمة، وهذا لا يعني أن هذه الأمراض لا تنتشر في باقي المناطق، ولكن انتشارها بمناطق السكن العشوائي أكثر، ونبهنا إلى ما تفقده موازنة الدولة من ضرائب ورسوم نتيجة عدم التسجيل أو سرقة المياه والكهرباء، وجاءت الأزمة لتأخذ هذه المناطق توسعاً هائلاً مع وجود مافيات منظمة للحماية والتسهيل مقابل أموال تعادل نصف الربح أو تساويه، طبعاً هذه المافيات تتعاون مع البلديات والمسؤولين المختصين مقابل أن ينالوا حصصهم، وإلى ما يقارب هذه الفترة الزمنية كانت هذه المافيات قد انتهت واغتنت وأقامت الأبنية الشاهقة في أماكن حساسة، ونتيجة لموقف شخصي يفتح هذا الملف ويأخذ أبعاداً وينتج عنه انعكاسات سلبيتها أكثر من فوائدها، وتعقد الاجتماعات لتأخذ الداخلية على عاتقها حل هذا الموضوع بعد أن امتنع البعض مراعاة لظروف البلد وعدم الإيذاء لمن تورط واشترى، وكان الحل باستخدام التدخل المباشر من وزارة الداخلية لمنع ما يستطيعون ممن لا حصانة لهم، مع تحويل المتعهدين وبعض المهندسين إلى القضاء ومنع إدخال مواد البناء إلا بإذن من البلدية وفتح أبواب للفائدة جديدة مع استمرار الحماية للبعض الذي كان لب المشكلة، والتعامل على مبدأ (خيار وفقوس)، ووضع بعض العناصر الشريفة في مواجهات ينالون منها الإهانة والشتم والتحقير من دون وجود من يحميهم أو يعطيهم حقهم، علماً حسب ما تسرب أن أغلب هذه الإجراءات كانت مخصصة لمحافظة اللاذقية متناسين باقي المحافظات، وكأن هذه المحافظة مستقرة وتعيش برفاهية ولا يعيش فيها ضعف سكانها من النازحين من باقي المحافظات أو من سكانها ممن كانوا بمحافظات أخرى. طبعاً لا أحد ضد القانون والنظام، ولا أحد ضد أن تأخذ المؤسسات دورها لضبط المجتمع مع ذكرنا سابقاً أن أكثر من نصف سورية عشوائيات، بمعنى في ظل ظروف طبيعية كانت هذه الشدة والصرامة غائبة فما الذي جرى الآن؟ وكأنه لم تكن هناك رؤية متكاملة لحل هذه المشكلة التي سيتولد عنها مشاكل! أم أن لتجار البناء دوراً في ذلك، فلا يقبل أيٌّ منهم أقل من 70 -120 ألفاً ثمن المسكن في المناطق القريبة ونحو 50 ألف في التجمعات البعيدة، وكذلك أقل بيت للإيجار 20 ألفاً في ظل العطالة عن العمل ووجود رواتب لا تزيد عن 15 ألفاً شهرياً، وفي ظل اضطرار البعض للالتجاء لهذا النوع من السكن لعدم إمكانية تأمين المال؟ أكيد كلنا مع تطبيق القانون وكلنا مع أن يكون القانون فوق الجميع، ولكن كذلك كلنا ضد القرارات المتسرعة غير المدروسة، وكلنا ضد أن يطول القانون الضعفاء، وأن لا يكون القانون عادلاً، فما ذنب من تورط واشترى في أماكن كهذه في ظل التغاضي والفلتان اللذين استمرا سنوات؟ ومن سيحصّل له أمواله؟ وماذا بمن بدأ البناء ولم يكمله؟ وكذلك ماذا عن آلاف الفرص العاملة التي أصبحت في الشوارع والتي ارتأت أن تعمل بأعمال مجهدة خيراً من أن تخرج خارج البلد أو أن تجنح لبعض الإغراءات؟ ولماذا ظلت هذه الجزر من الأراضي محيطة أو ضمن المناطق المنظمة ولم تدخل التنظيم؟ ولماذا تحييد ما يريدون وإدخال ما يريدون وحرف المخططات من أجل رفع أسعار الأراضي للبعض، والتغرير بالبعض، وفتح المجال لبعض المتنفذين لشراء ما سوف يدخل باستغباء الأصحاب الحقيقيين أو التغرير بهم؟

وكذلك يتبادر سؤال: ألا يوجد صيغة لضبط صحيح يعطي لكلٍّ حقه بما يناسب الإجراءات السليمة للبناء؟ ويدخل لموازنة الدولة العوائد الكبيرة وينصف الجميع ويعيد أملاك الدولة التي وصل جنون البعض إلى البناء فيها؟ وخاصة في ظل هذه الظروف الاستثنائية التي يعيشها البلد والضغوط التي يعانيها سكان هذه المحافظة التي شبعت دماء وفقراً واستقبلت الملايين من دون أي كلمة أو سوء سلوك، ولماذا لمحافظة اللاذقية فقط دون غيرها؟ أكيد حجم الفساد كبير وما يجري لا يقبل به أغلب العقلاء، وكلنا نطالب بدولة مؤسسات وقانون ونسعى لها، ولكن بما ينطلق من الواقع ويسير للمستقبل لا بما يفجر من لم ينفجر ويأخذ حقوق الفقراء لمراضاة بعض التجار، بما يستثني سبب البلاء ويستقوي على الفقراء الضعفاء، فكيف هذا الموضوع أخذ ورد ورد وأخذ والرؤوس المسؤولة عن هذه الأمور تحيّد لمحسوبيات، ويقع في المصيدة من هم دونهم؟ وكذلك السؤال الآخر: ألم يكن حرياً التدخل القوي لضبط المافيات التي تدير الملفات وتصنع الأزمات، وآخر هزلياتها صراع بالأيدي ضمن اجتماع مجلس المحافظة أسوة بالدول المتطورة في ظل اتهامات متبادلة بسرقة المازوت والإفادات الكبيرة التي يحصل عليها من يجب أن يشرف على التوزيع، أن تهرع لعلاج النتائج هروباً من حل سبب البلاء، وأن يكون الطرف الأضعف هو الشماعة التي لا تخدم في هذا الوقت لا الوطن، ولا المواطن تفريغ الضغوط هو العلاج لا تفجيرها. وما نراه لا يبشر بالخير إن لم يتدخل العقلاء في كل هذه الملفات، وأهمها التعيينات الصحيحة في محافظتنا، وفيما يتعلق بالملفات الحساسة المسورة، نحن في وقت حرج وبحاجة لكل الجهود للاحتواء والتجميع نحو حماية الجسد السوري، للانطلاق إلى دولة مؤسسات لكل دورها واختصاصها، والقانون يطبَّق على الجميع وهذا ما يتطلب الكثير من العقلانية المنطلقة من قراءة دقيقة للواقع.

العدد 1105 - 01/5/2024