روسيا تعيد صياغة استراتيجيتها في سورية

 لايخفى على أي متابع للوضع السوري مدى ملامح القلق العميق والخوف من تزايد الانقسام السوري السوري سياسياً وديموغرافياً واجتماعياً ضمن المجتمع السوري الواحد بين القوى القومية واليسارية والعلمانية على جبهة، والقوى الفاشية وعلى رأسها (تنظيم الدولة الإسلامية) و(جبهة النصرة) من الجبهة المقابلة. إن العمليات العسكرية الأخيرة رفعت من حالة غياب الأمان، وخلقت مشاعر خوف حقيقية دفعت بقسم كبير من المواطنين السوريين إلى الهجرة غير الشرعية واللجوء. وهناك انتشار كبير لفكرة التعبئة والتسليح الذاتي المحلي وضرورتها، سواء على خط النار أو في المناطق الآمنة.

عسكرياً يلاحظ استمرار نهج المعارضة الأصولية المسلحة في النزعة الهجومية لقضم كامل الجغرافيا السورية وإسقاط الدولة بالقوة، سلطةً ومؤسسات. وعلى الرغم من التناقضات (المصالحية) بين مكونات المجموعات المسلحة، إلا أنها جميعاً مع الأطراف الخارجية التي تدعمها لاتزال متفقة على هدف واحد هو إسقاط النظام السوري. ومنذ شهر آذار الماضي، نجحت هذه المجموعات برعاية وتخطيط إقليمي على تطبيق سوية مرتفعة من التنسيق فيما بينها، وقامت بأعمال عسكرية ذات طابع تسارعي، تركزت بصورة أساسية في محافظة حلب، والجنوب السوري. ومع تعثّر الأمر جنوباً، تبدو محافظة إدلب هي الأكثر احتمالية لخروجها كلياً من كنف الدولة السورية.

في ظل هذا الوضع الميداني المعقد تبدو روسيا وكأنها اقتنعت أن النظام الحاكم في سورية في وضع صعب، ووصل إلى طريق مسدود مع تكالب تركيا والمملكة السعودية وإسرائيل على نيل مكسب استراتيجي من تآكل الدولة السورية أو انهيارها، فقررت الدخول في المعركة على الأرض بأساليب مختلفة، منها بيع سورية منظومات دفاع جوي متطورة، وعدد من الطائرات الحربية الحديثة، وإعلان روسيا إجراء مناورات عسكرية قبالة السواحل السورية، وغيرها من وسائل الدعم اللوجستية والتكنولوجية الدقيقة.

إذاً، تنبهت روسيا إلى خطر انقلاب التوازنات في الميدان السوري، فتزامن سقوط محافظة إدلب بشكل شبه كامل بيد التنظيمات الأصولية المسلحة مع اشتعال معركة تدمر وتمدّدها باتجاه الغرب السوري، يشير إلى صعوبة الموقف. الهدف بطبيعة الحال إخراج جغرافيا البادية من يد الجيش السوري، والتسهيل العملياتي لحركة عناصر (تنظيم الدولة) نحو الجنوب السوري ونحو القلمون في الغرب. لذلك قام عناصر التنظيم بدخول بلدة القريتين التي تقع على الطريق الواصل بين تدمر ودمشق، وتستمر محاولاتهم المُستميتة التي فشلت حتى الساعة، في دخول بلدة مهين الاستراتيجية التي تربط القلمون الشرقي بالقلمون الغربي. أيضاً كان هدف (تنظيم الدولة) العامل اللوجستي بما فيه تأمين نقل النفط، والسيطرة على حقول الغاز الاستراتيجية، والمعنوي النفسي في السيطرة وتدمير آثار تدمر التاريخية.

أهم المناطق المشتعلة حالياً والتي حقق فيها الجيش السوري تقدماً كبيراً هي منطقة القلمون، فهذه المنطقة والمحاور المتعددة فيها هي الحاسمة على أكثر من مستوى عسكري ولوجستي، بشكل خاص المعارك المحتملة تجاه دمشق مستقبلاً (مدينتي دوما وجوبر)، والهدف الكبير هو تأمين الطرق الرئيسية إلى العاصمة، وعزل الغرب السوري عن الجنوب المتصل لوجستياً مع إسرائيل والأردن. ويسعى الجيش السوري لتأمين هذه المنطقة كلياً قدر الإمكان، كما يسعى حزب الله إلى الهدف ذاته، مترافقاً بهدف سياسي داخلي لبناني بحت، وهو أن لايتطور التمايز الطائفي في لبنان إلى حدود المواجهة المباشرة مع الوضع السوري.

يمكن القول بشكل عام إن بقية الجبهات في ريف حمص الشرقي ويف اللاذقية الشمالي، والغوطة الشرقية ومخيم اليرموك في دمشق، ودير الزور، وحلب هي شبه مستقرة من حيث عدم تقدم واضح لأي من الأطراف المتصارعة وتحقيق انتصارات أو هزائم كبيرة ولافتة. لكن هذا الستاتيكو في هذه المناطق لن يستمر طويلاً، إذ يفترض أنه سيجري بشكل متكرر توتير عسكري بمحيط العاصمة دمشق للتخفيف عن منطقة الزبداني. أيضاً وفي حال نجحت المجموعات الأصولية المسلحة في انتزاع محافظة إدلب من الجيش السوري، فإن الوجهة القادمة لها ستكون مُفترضة نحو الهجوم على أحد المحورين، محور الغاب في القطاع الشمالي في محافظة حماه، أو محور بلدة سلمى-جبل التركمان في القطاع الشمالي من محافظة اللاذقية.

هذا المشهد الميداني المعقد والصعب دفع القيادة الروسية إلى دق ناقوس الخطر والتفكير جدياً بالدعم العسكري المباشر، بحسب ماذكرته الصحف الأمريكية والعربية وتصريحات العديد من المسؤولين السوريين والروس المعنيين، وما أعلنه صراحة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في انتقاده عير المُبرر لروسيا بقوله إن أي دخول مباشر لروسيا في سورية قد يؤثر على نهج مكافحة الإرهاب في المنطقة؟

العدد 1105 - 01/5/2024