الأجور لا تنسجم مع إنتاجية عمالنا

إذا سألنا عدداً من العمال السوريين عن مقدار أجورهم لاختلفت إجاباتهم وتباينت حسب طبيعة عمل كل منهم ومؤهلاته الشخصية، ولكنهم سيتفقون على أمر واحد أنَّ مقدار ما يتقاضونه من أجور لا يتناسب مع حجم العمل الموكل إليهم، مبينين أنَّ قوة العمل بضاعة يبيعها مالكها (العامل) لشخص آخر لكي يؤمّن لنفسه وسائل العيش الضرورية، وهو ما يؤدي إلى ضعف الدافعية لدى الموظف إن لم يكن غيابها، ويجعله يعيش في حالة قلق وإحباط دائم يصرفه عن الولاء لعمله والبذل فيه، وخير مثال على ذلك انخفاض حصة الرواتب والأجور من الناتج المحلي الإجمالي في سورية من 45.3% عام 1996 إلى 29% عام 2008 وفي حين بلغ الوسطي العام لحصة الفرد من الناتج المحلي في الدول العربية 2492 دولاراً في عام 2003 كانت حصة الفرد في سورية لا تتجاوز 1217 دولاراً، ورغم ارتفاعها إلى 1700 دولار عام 2009 إلا أن هذه الزيادة قضمتها موجات الغلاء المتتالية، ووصلت نسبة الفقر إلى 41%(1)، فقد جعلت السياسات النيوليبرالية في العقد الماضي معدلات استهلاك الأسرة أعلى من متوسط الأجور، وبحسب دراسة للباحثة السورية عشتار محمود فإنَّ (الدخل الوطني السوري يتوزع اليوم على شكل 20% لمصلحة أصحاب الأجور، مقابل 80% لمصلحة أصحاب الأرباح)، وهو ما لعب دوراً في الحراك الشعبي الذي شهدته سورية أواسط آذار 2011.

فقضية الأجور تعد جزءاً رئيسياً من حياة المواطن اليومية، وهمّاً أساسياً ينعكس على إنتاجيته وعلى مجمل الحركة الاقتصادية، ولا يمكن وصفها بمشكلةٍ آنية تنتهي برفع الحدود الدنيا والمتوسطة للرواتب والأجور في القطاعين العام والخاص، فبعض الاقتصاديين يعتبر القضية مشكلة هيكلية في بنية الاقتصاد السوري، وفي النموذج الاقتصادي المتبع في مسألة الرواتب والأجور، في حين يعزوها البعض إلى حصة الرواتب والأجور من الناتج المحلي الإجمالي، باعتبارها الأقل عالمياً، ليكون الحل في إعادة توزيع الدخل الوطني توزيعاً عادلاً ومتساوياً، لكنَّ كل وصفٍ للمشكلة، والحلول المقترحة يتطلب، أولاً، دعم موارد الخزينة، ورغم كل ذلك تبقى معاناة العمال المتفاقمة يومياً والمتمثلة في رواتب عاجزة عن تأمين متطلبات الحياة الأساسية للمواطن، خاصة أن متوسط الأجر الشهري للعامل السوري غير متناسب مع الحاجة لردم الهوة بين الأجر ومتوسط إنفاق العائلة السوريّة، إذ إنَّ متوسط استهلاك الأسرة المكونة من خمسة أشخاص يبلغ نحو 80 ألف ليرة، في حين أنَّ متوسط الأجور في القطاع العام نحو 20 ألف ليرة، ومن المعلوم أن متوسط أجور القطاع الخاص أدنى من ذلك بكثير، وبذلك نكون أمام نسبة كبيرة من السـوريين تعيش تحت خط الفقر الأدنى.

عود على بدء

الأجر هو المقدار النقدي أو العيني الذي يدفع لقاء ساعات عمل محددة أو لقاء القيام بعمل معين، وله أهمية اقتصادية لأنه إحدى نفقات الإنتاج والمحدِّد الرئيس لدخل العامل، لأنه يتأثر بما يستطيع العمال تقديمه من مدخلات في العملية الإنتاجية، فإنتاجية العمل والأجور التي تدفع للعمال يجب أن تكون متناسبة مع هذه الإنتاجية، وبالتالي تخضع للقوانين التي تنظم الحركة العامة للأسعار، ولذا تلجأ بعض الشركات، إلى تخفيض أجور عمالها، للتقليل من تكلفة منتجاتها لزيادة منافستها بالأسواق، الأمر الذي حدث في بريطانيا في ظل حكومة تاتشر حيث تمَّ تدمير 2.5 مليون وظيفة في الصناعة مع الحفاظ على مستوى الإنتاج نفسه عام 1979 ولكن ذلك لم يتحقق من خلال إدخال آلات جديدة بل من خلال الإفراط في استغلال العمال البريطانيين، وفي عام 1995 حذر كينيث كالمان، المدير العام للصحة، من أن (فقدان العمل قد تسبب في إطلاق العنان لوباء من الأمراض المرتبطة بالإجهاد).

ولذا تهتم الحكومات بسياسات الأجور المتبعة لآثارها الإيجابية أو السلبية على العديد من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، فمعدلات الادخار والاستثمار والاستهلاك والدخل القومي تتوقف إلى حدٍّ بعيد على مستوى أجور القوى العاملة، كما أن تناسب الأجور مع مستويات المعيشة يحدُّ من الكثير من المشاكل الاجتماعية والأسرية التي تنعكس على المجتمع واستقراره، وهذا ما يشير لضرورة تخطيط الأجور في المؤسسات بشكل يحقق العدالة النسبية بين الأفراد، ويؤدي لزيادة مستوى إنتاجية العمل، وتساهم أيضاً في تحقيق الرضا النفسي للأفراد وزيادة ولائهم للمؤسسة.

إن كل ذلك يتطلب وجود توازن بين قيمة ما تحصل عليه المؤسسة من ناتج أداء العاملين على شكل سلع أو خدمات مع ما تدفعه لهم من عوائد مادية على شكل أجور ومكافآت وخدمات ومزايا أخرى، إذ تؤدي النفقات العامة، أي الرساميل بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى زيادة المقدرة الإنتاجية من خلال تنمية القوى المنتجة كماً ونوعاً. وتدفع النفقات الاستثمارية أي النفقات الإنتاجية إلى زيادة وتراكم الرأسمال من خلال تكوين رساميل عينة جديدة، ومن ثمّ نمو وتطور القدرة الإنتاجية على المدى الطويل، يلي ذلك زيادة مباشرة في الدخل القومي.

مع ملاحظة أنه كلما توجهت الصناعة إلى استخدام المكننة الحديثة انخفضت نسبة اليد العاملة فيها، إذ إنَّ التقنيات الجديدة لا تحتاج إلى تدخل العامل باستمرار، إنما تُدار عن طريق التوجيه الإلكتروني المنظّم مسبقاً بحسب المعطيات، والمتعلّق بالعمليات المطلوب تنفيذها.

لقد بات من الضروري اليوم وضع سياسة للحد الأدنى للأجور تحقيق التوازن بين هدفي خلق فرص العمل سنوياً وتأمين مستوى معيشة مقبول للمواطن، والتركيز على تطبيق تلك السياسة بفاعلية لحماية الدخل الحقيقي من التدهور، فالموضوع يطرح تصوراً أكثر شمولية لمقاربة ملف الأجور والعمال والعمل بشكل يؤسس لمرحلة جديدة من التكامل والتكافل والعلاقات الاقتصادية السليمة بين فرقاء الإنتاج، وبما يحفز على الاستثمار وزيادة معدلات النمو وخلق فرص العمل الجديدة.

 

(1) راجع الدراسة التي أعدّها برنامج الأمم المتحدة بالتعاون مع هيئة تخطيط الدولة والمكتب المركزي للإحصاء في عام 2004.

العدد 1105 - 01/5/2024