الاستشراف والحضور الجمالي في شعر أمير شعراء الرفض أمل دنقل

ولد أمل دنقل في قرية القلعة من صعيد مصر، وتوفي بعد صراع مرير مع المرض. من دواوينه: (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، تعليق على ما حدث، مقتل القمر، العهد الآتي، أوراق الغرفة رقم 8).

والشاعر أمل دنقل من الشعراء الذين استشرفوا المستقبل العربي، وانصبت اهتماماته على الهموم الاجتماعية، والوطنية والإنسانية. وانطلق من موقف فكري وسياسي رافض مجريات الحوادث والوقائع، في تجربة شعرية حملت خصوصية في الفكر والصور والأسلوب وبغنائية عالية.

وجاءت قصيدته الشهيرة (لا تصالح) لتعبر عن ذلك المأزق الذي وقعت فيه السياسة المصرية نتيجة اتفاقية كامب ديفيد، وهذه القصيدة كتبت قبل الاتفاقية، واستطاع الشاعر أمل دنقل أن يشي بأن ثمة اتفاقاً سوف يحدث، إذ يقول فيها:

(لا تصالحْ!

ولو منحوك الذهبْ

أترى حين أفقأ عينيكَ/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما..

هل ترى..؟/ هي أشياء لا تشترى..).

إن قصيدة (لا تصالح) من أهم قصائد المقاومة في شعرنا الحديث، إذ استطاع الشاعر تحديد ملامح المستقبل من قراءة الواقع، فهو قد أدرك من خلال ما رآه من جرائم الصهاينة، ومن مراوغاتهم أن المصالحة معهم مستحيلة، وحتى لو تصالحت معهم، فإنهم يشترون منك مبادئك بثمن بخس، وعندئذ ستكون أنت الخاسر الأكبر وهم الرابحون).

وكذلك قصيدته (خطاب غير تاريخي) التي كتبت في السبعينيات مضمونها يتوافق مع اللحظة الآتية، يدل على أن أمل دنقل كان صاحب رؤية مستقبلية، يقول فيها:

(ها أنت تسترخي أخيراً/ فوداعاً/ يا صلاح الدين/

يا أيها البطل البدائي الذي تراقص الموتى/ على إيقاعه المجنون/

يا قارب الفلين/ للعرب الغرقى الذين شتتتهم سفن القراصنة/

وأدركتهم لعبة الفراعنة)

ويقول الناقد أحمد عبد الرزاق أبو العلا: (استناد أمل على التراث، وتطويع أدوات الشعر أثناء المعالجة لخلق صورة جديدة، تعكس تلك الثقافة التي استلهمها من التراث. وعندما يستطيع أي شاعر خلق هذه المزاوجة فإنه يكون قد امتلك ناصية الشعر).

وهذا رد على كل شاعر أراد النيل من شاعرية أمل دنقل بأن (شعر أمل دنقل مباشر، وأصولي، وكلاسيكي، يغازل الجماهير بفجاجة).

لقد يئس هؤلاء من تقزيم أمل دنقل، ووجدوا أنفسهم خارج ملعب الشعر يعيشون في عزلة قاتلة.

عاش الشاعر أمل دنقل بشعوره نكسة حزيران بما يملك من رؤى مستقبلية يستشرف بها آفاقاً من عالم الغد بعد وقوعها، وظل يحمل أحزانه دون أن يجد من يصغي إليه، فعاد إلى التراث العربي مستحضراً أسطورة زرقاء اليمامة، ومتقمصاً شخصية جندي من بني عبس. ومثلث زرقاء اليمامة قناعاً فنياً جسدت رؤية الشاعر البعيدة، والتي تجاوزت إحباطات الحاضر، واتجهت إلى استكشاف المستقبل. فمعظم قصائد ديوان (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) الذي نشر بعد هزيمة ،1967 تدور في فلك التعبير عن الهزيمة، لا استسلاماً لتداعياتها بل استنهاضاً للهمم. فالشاعر يرفض الهزيمة والاستسلام، فهو يؤمن بدور القصيدة، في حين نرى تياراً آخر يرى في الإبداع غايته.

وقصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) من القصائد المتميزة من حيث تصوير الواقع العربي إبّان النكسة، ورؤية الشاعر المستقبل وفق معطيات الواقع، وتكرار الهزائم عبر التاريخ. فالشاعر تقمص شخصية مقاتل نجا من الحرب، وجاء إلى زرقاء اليمامة مخبراً، فنرى وصف حال المقاتل، اليائسة، وهو مثخن بالطعنات والدماء، منكسر بسبب ما رآه من جثث الأطفال والجنود ومن سبي النساء. وكان دمه يقطر وهو يقترب من الموت، وكان يتساءل عن المستقبل القادم. ونجده يسأل زرقاء اليمامة عن ساعده المقطوع وصور الأطفال في الخوذات وهي ملقاة في الصحراء، وعن الجار الذي قتل وهو يرتشف الماء، وعن الفم المحشو بالرمال والدماء.

(أيتها العرافة المقدسة..

جئت إليك.. مثخناً بالطعنات والدماء

(أزحف) في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة.

منكسر السيف مغبّر الجبين والأعضاء.

أسأل يا زرقاء..

عن ساعدي المقطوع.. وهو (ما يزال ممسكاً) بالراية المنكّسة

 عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاة على الصحراء

عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء).

ولكن هيهات أيتها المنجمة، ما نفع توقعاتك تلك، إذا لم تلق أذناً تصغي إليها. فأنت أخبرتهم عن قدوم أعداد كبيرة من الأعداء، فلم يُعدُّوا العدة. وحين جاءت ساعة الحقيقة ووجدوا أن لا مفر من القتل، باعونا وتركونا وحدنا مع الحزن نواجه الموت والخراب دون مأوى ودون أهل، وتركوا العدو يسبي النساء ويذلّهن، يُسَقن في سلاسل الأسر، وفي ثياب العار.

ويقصد الشاعر بزرقاء اليمامة نفسه التي استشرفت المستقبل، فهو كشخص مكافح يرى المستقبل بحسب مجريات الواقع، وقد دفع ثمن الهزيمة والذل والعار مشتركاً بذلك مع زرقاء ا ليمامة، وقد تجلت العاطفة قوية في هذا النص، وتنوعت المشاعر من ألم ويأس وحسرة، كما أن النص غني بالصور الفنية، كصورة الجندي المهزوم، وصورة إنسان يائس من عدم الاكتراث لما يقول، وهو يدرك تماماً أن ما يقوله صحيح.

(أيتها العرّافة المقدّسة..

(ماذا تفيد الكلمات البائسة)؟

وحين (فوجئوا بحدّ السيف) قايضوا بنا

والتمسوا النجاة والفرار

ونحن جرحى القلب، جرحى الروح والفم.

لم يبق إلا الموت/ والحطام/ والدمار/

وصبية مشردون يعبرون آخر الأنهار

ونسوة يسقنَ في سلاسل الأسر، وفي ثياب العار.

ويقول الكاتب شعبان يوسف في معرض حديثه عن أمل دنقل وأقنعته المتعددة: (فأمل دنقل كان أشد الشعراء بعداً عن المباشرة والتقريرية المقيتة، وكانت الأقنعة عند أمل تخدم غرضين، أولهما هو الابتعاد عن النثرية، وإعطاء القصيدة بعداً جمالياً خاصاً، والغرض الثاني هو استنهاض بعض الرموز الثورية والمتمردة، التي كانت تتوزع بين رموز إنسانية عامة، أو مصرية فرعونية، أو عربية).

كما نلحظ أن كل ديوان له لم يخل من إيراد تقنية الأقنعة المتعددة، والرموز الشفافة، فهي أشبه بالأساس والصخرة القوية في بناء القصيدة، ولذلك لا يمكن أن يفك رموز هذه القصيدة بمتعة ويسر، فهو الذي استوعب التراث واستعاد اللغة العربية بفصاحتها القديمة، واستخدم الأقنعة والرموز بكثافة. ومن هنا فبقاء شعر أمل دنقل واستمراره طويلاً يرجع إلى عدة قيم، منها أولها إعادة الوجه العربي للقصيدة. وثاني القيم إحياء قصيدة القناع التي تمثلت في رجوعه للتراث. أما القيمة الثالثة فهي التواصل مع الجمهور ومحاولة المزاوجة بين الهم الذاتي والهم العام . ما جعل القصيدة السياسية ذات قراءة عالية لأنه جعلها قريبة من الناس.

وأمل دنقل يجيد صناعة الجمال الشعري في قصائده من خلال الملامح الأسلوبية، ومن خلال توظيف الأقواس فيضيفها الشاعر إلى المكون الأساسي في المقطع أو القصيدة، وهي تكشف عن موقف الشاعر من موضوع القصيدة أو موضوع المقطع. وهذه الأقواس تخلق عالماً موازياً، ينافس بحضوره العالم الظاهر للنص. وفي هذه الأقواس إشارات ورسائل قصيرة ليرشدنا إلى الوجه الخفي من المدينة والعلم، كما يشير إلى ذلك الدكتور صلاح فاروق في حديثه عن أبرز ظواهر تشكيل القصيدة عند الشاعر أمل دنقل في صناعة القصيدة في شعر الجنوبي الحياة بين قوسين:، (أشعر الآن أني وحيد،…/ وأن المدينة في الليل../ (أشباحها وبناياتها الشاهقة)/ سفن غارقة/ ليس ما ينبض الآن بالروح في ذلك المستكين/ غير ما ينشر الموج من علم… (كان في هبة الريح). والآن يفرك كفيه في هذه الرقعة الضيقة!).

يظهر هذا المقطع موقف الشاعر من المدينة وموقفها منه، تتخذ الموقف المقابل لهذه الوحدة الإنسانية (سفن غارقة)، وبين الموقفين يتعاظم شعور الذات بالعزلة والانفراد.

 

الهوامش

1 أمل دنقل: الأعمال الشعرية، تقديم د. عبد العزيز المقالح.

2 مجلة الشعر: العدد 129 ربيع 2008.

العدد 1105 - 01/5/2024