لماذا كان ماركس محقّاً؟! (26)

يمكننا القول عموماً إن الثقافة والسياسة والقانون في مجتمع الطبقات أمور مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصالح الطبقة الحاكمة. ويقول ماركس في (العقيدة الألمانية) بأن (الطبقة التي تسيطر على السلطة المادّية في المجتمع هي الطبقة التي تسيطر في الوقت ذاته على المجال الفكري فيه).

قد يصل أغلب الناس، فيما لو أعطوا أنفسهم الوقت الكافي، إلى النتيجة التي تدعو إلى العجب والتي مفادها أن الإنتاج المادّي الذي أخذ في تاريخ البشرية حيزاً كبيراً، واستهلك وقتاً وجهداً عظيمين، وأسفر عن نزاعات دامية، وشغل البشر من المهد إلى اللحد، وزجّ الكثير منهم في صراعات مميتة، قد طبع أيضاً كثيراً من مناحي حياتنا بطابعه. فكثير من المؤسسات الاجتماعية تتأثّر بشدة بهذا الإنتاج المادّي الذي غالباً ما يُبعد السياسة والثقافة والتفكير عن مساراتها المرسومة لها، وبدلاً من أن تتطوّر وفق خططها، نرى أنها تُخصِّص وقتاً طويلاً لشرعنة النظام الاجتماعي القائم. لنفكِّر بالنظام الرأسمالي المعاصر الذي تترك فيه البضائع بصماتها القذرة في كل مكان، من الرياضة إلى الجنس، ومن السؤال عن كيفية الفوز بمكان في الصف الأمامي في الجنة، إلى الصراخ المُصمّ للآذان الذي يحاول الصحفيون الأمريكان بواسطته جذب اهتمام مشاهدي التلفاز إلى البضائع التي يروّجون لها. إن المجتمع الرأسمالي المعاصر هو أكبر برهان على صحة نظرية ماركس التاريخية بشكل مقنعٍ جداً. ومن وجهة نظر معيَّنة، تزداد قدرتها على الإقناع أكثر وأكثر مع مرور الزمن. فالرأسمالية، وليس الماركسية، هي التي تنحطّ إلى مستوى إرجاع كل شيء إلى الاقتصاد.

والرأسمالية هي التي تؤمن بالإنتاج بحدِّ ذاته، بالمعنى الضيّق لكلمة (إنتاج).

أما ماركس، فيؤمن بالإنتاج بحدِّ ذاته، لكن بالمعنى الأوسع لكلمة (إنتاج). وقال إن تحقيق الإنسان لذاته قيمة بحدِّ ذاتها ولا يجوز استعمالها لأيّ غرض آخر. لكن ذلك يبقى مستحيلاً ما دام الإنتاج يسيطر بحدّ ذاته بالمعنى الضيّق، إذ سنصرف عندئذ جزءاً كبيراً من طاقتنا الخلاقة على إنتاج مواد المعيشة بدلاً من التمتّع بالحياة ذاتها. ويمكن التعرّف على مغزى الماركسية بوضوح من التناقض بين طريقتي استخدام تعبير (الإنتاج من أجل الإنتاج)، ففي الأولى بطريقة اقتصادية، وفي الثانية بطريقة خلاقة وفنيّة. وتفادياً لأي اختزال إلى مستوى الاقتصاد، فقد انتقد ماركس اقتصار إنتاج الإنسان على الجرّ ارت والعنفات. والإنتاج الذي كان يهمه كان أقرب إلى الفنّ من تجميع راديوهات ترانزستور أو ذبح النعاج. وسنتطرّق إلى ذلك فيما يلي.

ومع ذلك، فمن الصحيح أن ماركس قد نبّه بإصرار إلى الدور المركزي (بالمعنى الضيّق للكلمة) الذي يلعبه الاقتصاد حتى اليوم، إلا أن وجهة النظر هذه لا تقتصر على الماركسيين فقط. قال الإمبراطور الروماني سيسرو بأن هدف الدولة هو حماية المُلكيّة الخاصّة. وكانت نظرية التاريخ (الاقتصادي) تعبيراً مطروقاً من قبل الجميع في عصر التنوير في القرن الثامن عشر. واعتبر العديد من مؤيّدي هذه النظرية التاريخ تتابعاً من طرق إنتاج تستطيع تفسير العلاقة بين العائلة والدولة والمظالم الاجتماعية وطريقة العيش ووضع الفرد في المجتمع. ويقول آدم سميث Adam Smith بأن مراحل التطوّر المادّي عبر مجرى التاريخ قد أنتجت أشكال الحكومات والملكية والقوانين. ويقول جان جاك روسّو Jean  Jacques Rousseau في كتابه (دراسة حول منطلق وأسس عدم المساواة بين البشر) بأن (علاقات المُلكية مسؤولة عن الحروب والاستغلال وصراع الطبقات، وأن ما يسمى بالعقد الاجتماعي ليس سوى غش يمارسه الأغنياء بحق الفقراء من أجل حماية امتيازاتهم. لقد رمى المجتمع البشري الضعفاء في الأصفاد ومنح الأقوياء قوّة إضافيّة فحطّمت هذه القوة الحرّية الفطرية إلى الأبد، ورسّخت قانون المُلكية وعدم المساواة إلى الأبد أيضاً، وأرغموا الجنس البشري بكامله من الآن فصاعداً على العمل والعبودية والمعاناة، لصالح حفنةٍ من الطموحين). كما يدعم القانون، وفق روسّو أيضاً، في أحيان كثيرة القويَّ إزاء الضعيف. والقانون، عادة، هو أداة بيد السلطة والحاكم. أما الثقافة والعلوم والأديان، فقد نشرت (الورود فوق الأصفاد) التي قيّدت الإنسان. الملكية هي أساس عدم رضا الإنسان.

قال الاقتصادي الإيرلندي الشهير جون إيلليوت كيرنس  Cairnes John Elliot، الذي عمل في القرن التاسع عشر والذي اعتبر الاشتراكية (جهلاً اقتصادياً مطبقاً) وعُدَّ الاقتصاديَّ الأكثر أُرثوذكسيّة بين الاقتصاديين الكلاسيكيين، (بأن مصلحة الإنسان المادية ذات أهمية حاسمة لدى تحديد قناعاته السياسية وسلوكه). كما كتب في مقدّمة كتابه »سلطة العبيد«) The Slave Power (إن مجرى التاريخ تحدّده إلى حد بعيد التأثيرات الاقتصادية). وكتب أشهر مؤرّخ إيرلندي آنذاك لكّي W.E.H.Lecky، وهو من المعادين للاشتراكية، إن (قانون الإرث هو من بين قليلٍ من الأشياء التي تُسهم في تكوين النمط الاجتماعي). حتى فرويد اعتقد بوجود شكلٍ من أشكال الجبرية الاقتصادية، فقال بأننا لولا حاجتنا إلى العمل لتسكّعنا طيلة اليوم ولجرينا بلا حياء وراء رغباتنا الجنسية. الاحتياجات الاقتصادية هي التي تخلِّصنا من عطالتنا الطبيعية وتحملنا على القيام بنشاط اجتماعي.

أو لنقرأ بتمعّن التعليق المادّي التاريخي التالي غير المعروف لدى كثيرين: –

(كان على أعضاء المجتمع البشري أن يجتازوا مختلف مراحل الصيد والجني والرعي والزراعة. ثم، عندما أصبحت المُلكيةُ ذات قيمة وعدمُ المساواة حقيقة قائمة، وعندما ابتُدعت القوانين لتفادي التجاوزات، وعندما طمع البشر في ظل حماية هذه القوانين بالمزيد، وعندما انتشرت الرفاهيةُ وتبعها المزيد من الرفاهية، عندئذٍ أصبحت العلوم ضروريّة ومفيدة. ولم تعد الدولة قادرة على البقاء من دونهما).

لم تكن هذه أفكار ماركسيّ يكتب شعاراً قديماً، وإنما هي أفكار أوليفر غولدسميث  Oliver Goldsmith الكاتب الإيرلندي من القرن الثامن عشر، المحافظ جداً عن قناعة. من الواضح أن الإيرلنديين يميلون بشدة إلى نظرية التاريخ الاقتصادية، وهذا عائد إلى وضعهم الذي لا يمكن التغاضي عنه: بأنهم عاشوا في مستعمرة مُفقرة تحكمها طبقة من مالكي الأراضي الأنكلو إيرلنديين. أما في إنكلترا، فلم يشعر المؤرّخون والشعراء – بفداحة الظروف الاقتصادية، نظراً لتعدد شرائح البنية الفوقية لديهم. يتصرّف كثير من الناس الذي يرفضون بازدراء نظرية ماركس التاريخية، تماماً كما لو أنها حقيقة واقعة. وهؤلاء هم كبار موظّفي المصارف والمستشارون الماليون وموظفّو وزارات المالية. فكلُّ ما يفعلونه، يبرهن على أنهم يؤمنون بأولويّة الاقتصاد على كل شيء آخر، وهم جميعاً بالتمام والكمال ماركسيّون حتى النخاع.

تأليف: تيري إيغلتون

العدد 1107 - 22/5/2024