من إسبانيا إلى كندا التقشف يدفع الناخبين إلى اليسار

ليست برامج التقشف الرأسمالية شيئاً جديداً بالنسبة إلى الشعوب التي تعيش في البلدان المظلومة، والتي معظمها مستعمرات سابقة أو مستعمرات جديدة تعيش تحت إملاء المؤسسات المالية القوية في الولايات المتحدة وأوربا.

وأجبرت (برامج التعديل الهيكلي) لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي عشرات البلدان، وخصوصاً في إفريقيا وأمريكا اللاتينية على (تشفية حتى العظم) للإنفاق العام على الصحة والتعليم والبنية التحتية وخدمات أخرى حيوية. وتم كل ذلك كي تتمكن المصارف المتعددة الجنسية من مواصلة تلقي الفوائد الضخمة على (المديونية) المعلقة فوق بلدان نهبت مواردها أكثر من قرن من قبل القوى الإمبريالية نفسها.

وكانت النتائج رهيبة: تزايدت بسرعة الهجرة اليائسة من تلك البلدان عندما انفجرت اقتصاداتها. وحتى وباء غيبولا الذي اجتاح ليبريا وسيراليون وغينيا في غرب إفريقيا في العام الماضي، ارتبط مباشرة بالاقتطاعات في الصحة العامة التي طلبتها خطط (التعديل الهيكلي)، وفقاً لتحليل في مجلة طبية بريطانية بارزة (لانسيت في 22 كانون الأول 2014). ولكن مطالب المصرفيين لم تتوقف هناك، ففي السنوات الأخيرة، وخصوصاً منذ الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية في عامي 2008 ـ 2009 التي لم يتم التغلب عليها حقاً، أصبح التقشف أيضاً عبارة متداولة في العديد من البلدان الرأسمالية المتقدمة. في عام 2011 فرضت إجراءات التقشف في العديد من البلدان الأوربية من قبل أحزاب سياسية برجوازية مثبتة منذ وقت طويل استخدمت لخدمة المصالح الطبقية للرأسماليين والمديرين في أوقات النمو والاستقرار النسبي. كان بعضها أحزاباً اشتراكية ديمقراطية أشرفت في وقت ما حتى على تنازلات ساعدت على رفع المستوى المعيشي للطبقة العاملة. وجدت هذه الأحزاب نفسها فجأة في مواجهة مظاهرات حاشدة مضادة للتقشف، بشكل رئيسي من قبل عمال في القطاع العام ولكنها ضمت أيضاً جماهير واسعة من الناس الأكثر تألماً بسبب الاقتطاعات. بدأت هذه المظاهرات الحاشدة في بلد بعد آخر تؤثر على المناخ السياسي وتقوّض الأحزاب صاحبة المناصب عندما بحث الناخبون عن مخرج من معاناتهم. وكان الاختراق الأكبر حتى الآن، وبالطبع، في اليونان حيث استلمت تشكيلة انتخابية جديدة نسبياً هي سيريزا قيادة الحكومة بوعد أنها ترفض تنفيذ الاقتطاعات التي طالب بها المصرفيون الإمبرياليون الأوربيون في الخدمات الاجتماعية، وخصوصاً المعاشات الحكومية.

ومع أن الأزمة اليونانية لم تُحَلّ وازدادت حدة التهديدات التي يوجهها الرأسماليون، وخصوصاً المصارف الألمانية ضد سيريزا، يستمر نمو المعركة السياسية ضد الأحزاب الحاكمة في أماكن أخرى، وتتخذ المعركة أشكالاً عديدة.

من اليونان وإسبانيا إلى إسكوتلندا حتى كندا، انجذب الناخبون إلى أحزاب، بعضها جديد تماماً، تهاجم التقشف وتعد بالعثور على مخرج من اقتطاعات الميزانية التي يدافع عنها السياسيون في السلطة كضرورة مطلقة.

نكسات المحافظين في الدولة الإسبانية

حدثت النكسة الأخيرة لأصحاب المناصب في إسبانيا حيث أيد الناخبون الائتلاف اليساري بوديموس في الانتخابات المحلية والإقليمية في 15 أيار الذي أحدث مفاجأة إلى حد ما. اكتسب بوديموس، مثل سيريزا، التأييد بسرعة بفضل وعده عدم فرض إجراءات التقشف على الشعب.

ففي برشلونة، ثاني أكبر مدينة في الدولة الإسبانية وعاصمة كاتالونيا شبه المستقلة ذاتياً، ستكون أداكولاو، رئيسة ائتلاف لأحزاب يسارية يضم بوديموس، المحافظ الجديد. وقد احتلت كولاو (41 عاماً) عناوين الصحف قبل عامين عندما اعتقلت خلال احتلال مصرف في احتجاج ضد الفقر.

وفي مدريد، رشح حزب الشعب اليميني، الموجود في السلطة منذ عشرين عاماً تقريباً، للانتخابات المحافظية الأخيرة الكونتيسة بالزواج إسبرانزا أغويري التي توجد أموال طائلة تحت تصرفها وحاربت اليسار بالإرهاب. ولا يزال هناك شك حول النتيجة النهائية للانتخابات.

القاضية اليسارية مانويلا كارمينا تنقصها نقطة واحدة للتغلب على الكونتيسة. وسيكون على إحداهن تشكيل ائتلاف مع الحزب الاشتراكي الوسط لاستلام المنصب.

رأت كارمينا في أيام الديكتاتور الفاشي الجنرال فرانسيسكو فرانكو خمسة من زملائها يقتلون بالرصاص في مكتبها الحقوقي وانضمت إلى الحزب الشيوعي المحظور، وكانت مرشحة ائتلاف يساري سمى (أهورا مدريد) مدعوم من بوديموس. وسواء أصبحت محافظاً أم لا، فإن الانتخابات تشكل افتراقاً عن الماضي. وفي انتخابات أعضاء البرلمان البريطاني في 5 أيار اجتاح الحزب الوطني الإسكوتلندي الانتخابات في أسكوتلندا بفوزه بـ 56 مقعداً من أصل 59. وقبل أسبوعين من الانتخابات أصدر زعيم الحزب الوطني الإسكوتلندي بيان الحزب الذي أكد أنه سيحارب التقشف في كل المملكة المتحدة (متعهداً بالنضال من أجل زيادة الإنفاق العام وإنهاء الاقتطاعات في بريطانيا). (بي بي سي في 17 نيسان).

وكان القوميون الإسكوتلنديون قد خسروا  بفارق ست نقاط استفتاء حول الاستقلال في أيلول الماضي، بعد تعهدهم بإنهاء التقشف إذا انتخبوا.

اضطراب النفط الكبير في ألبيرتا

في الجانب الآخر من الأطلسي، تجلى النضال ضد التقشف في هزيمة الحزب المحافظ التقدمي في ألبيرتا التي كانت  تعد منذ وقت طويل الولاية الأكثر محافظة في كندا. إن أعواماً من اقتصاد يزدهر معتمداً على استغلال الرمال القارية ومصادر أخرى للنفط أكسبت ألبيرتا لقب (تكساس كندا) وحصّنت إدارة سياسية ثرية.

ولكن عندما بدأت أسعار النفط تنخفض في العام الماضي حلت محل تبجح سياسيي ألبيرتا حول الثروات النفطية للولاية مطالبهم باقتطاعات في الميزانية وزيادة الضرائب، على الشعب وليس على الشركات.

كان هذا سبب سقوط رئيس وزراء الولاية جيم برنتيس الذي حلت محله في 24 أيار راشيل موتلي من الحزب الديمقراطي الجديد التي وعدت بزيادة ضرائب الشركات من أجل تقليص الرسوم ورد الاقتطاعات في الخدمات. زاد عدد مقاعد الحزب الديمقراطي في المجلس التشريعي للولاية من أربعة إلى 54 مقعداً من أصل 87. وهذا فوز مدهش.

العدد 1105 - 01/5/2024