المجتمع المدني.. الأنفاق السياسية المفخخة

 يشكل المبشرون الليبراليون الجدد القوام التنظيمي، إن صح التعبير، للتيار الانبهاري العربي المهزوم أمام ثقافة القوة، فقد لعبوا وما يزالون الدور الأخطر في تغيير وجهة الوعي الاجتماعي، لخلق بؤر استيطان للعولمة المتوحشة داخل المجتمع، وقولبة نمط تفكير الأفراد وفق المنظور الأمريكي وتحويلهم الى أتباع متباهين بالقبيلة الكونية، التي تديرها عصابة من زعران الرأسمال في واشنطن، وأسوأ هؤلاء المبشرين على الإطلاق هم النخب المثقفة الانتهازية ذات الماضي اليساري، مثل جلال صادق العظم وبرهان غليون وميشيل كيلو وآخرين ممن خيبوا أمل الجماهير وقواها الوطنية التقدمية، وشوهوا صورة اليسار وحطّوا من مكانته، ووظفوا المستوى المعرفي العالي الذي أكسبتهم إياه الثقافة الماركسية لقلب مفاهيم الصراع في الذهنية الوطنية، لتتوافق مع صراع الحضارات الدموي الذي رسم كروكياته هنتنغتون، مهيّئين البيئة لمجزرة 2011 كخلية دأبت منذ عام 2000 على أثر بيان الـ 99 وبيان الـ 1000 تحت مسمى ربيع دمشق على خلق تلك البؤر التبعية- المجتمع المدني- الذي سيشكل غطاء علمانياً للذهنية الدينية الرجعية المتصاعدة في الشارع السوري، التي كانت تحفر الأنفاق الفكرية وتفخخ بانتظار تفجيرها تحت البنى الاجتماعية الآخذة بالتفسخ بتأثير العولمة.

وعلى الرغم من انكشاف دور هؤلاء مع تطور الأحداث في سورية وتدفق الوثائق المبددة للضباب الذي شوش نشاطهم، ما زالوا مستمرين في تضليل الناس واللعب على وتر انفعالاتهم،علماً بأن مجرد اختفاء مفهوم العدالة الاجتماعية (الخشبي) من منظومة القيم التي يرفعونها يفرغ جوهر نضالهم ويضع علامات استفهام عملاقة حول نشاطهم، ويلقي بظلال من الشك الكبير حول يساريتهم. فكيف وهم في موقع الإذعان والدونية وجلد الذات والتبعية؟ كما تؤكد مقالة المفكر الفرنسي تيري ميسان (اليسار الإمبريالي المتطرف) التي كشفت جذور علاقاتهم الأمنية مشيرة إلى التوافق بين انشقاق رياض الترك وشلة من الناشطين بينهم جورج صبرا وميشيل كيلو عن الحزب الشيوعي السوري، وتركيز وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية على إفساد المناضلين الشيوعيين في كل أنحاء العالم خلال إدارتي الرئيسين الأمريكيين جونسون ونيكسون، إذ اضطر المنشقون لفك الطوق عن عزلتهم عبر الاتصال مع حزب يساري متطرف في الولايات المتحدة – الاشتراكيون الديمقراطيون – يرأسه كارل جيرشمان.

وقبل متابعة تلخيص ما جاء في المقالة يجب لفت الانتباه إلى نقطتين هامتين، الأولى تتعلق برئيس هذا الحزب كارل جيرشمان (مواليد 1943 نيويورك) هو أحد أعضاء المنظمة الصهيونية أبناء العهد، ومن التروتسكيين الذين شكلوا النواة الأولى للمحافظين الجدد الحاليين، وهو من أوائل مديري مؤسسة الصندوق الوطني للديمقراطية، وهو نفسه صرح في عام 1986بأن المؤسسة التي يرأسها هي واجهة لوكالة المخابرات المركزية وبأنه (لا ينبغي أن نفعل هذا النوع من العمل سراً لأنه سيكون من الرهيب على الجماعات الديمقراطية في العالم أن ينظر إليها باعتبارها مدعومة من قبل الوكالة).

والنقطة الثانية وردت إشارة في مذكرات الرفيق الراحل يوسف فيصل (ذكريات ومواقف- ج2- ص161) حول الاتصالات بين المنشقين دون تسميتهم والمراكز التروتسكية. تقول مقالة تيري ميسان إن كارل جيرشمان هو من كلف جورج صبرا وميشيل كيلو بإصدار بيان دعم لجماعة الإخوان المسلمين في أعوام 1979-،1982 وعام 1982 أيضاً شهد إنشاء مؤسسة الصندوق الوطني المذكورة بأمر من الرئيس ريغان وقد طليت بصبغة المنظمات غير الحكومية، وترأست مادلين أولبرايت فرعاً منها مكلفاً بإفساد أحزاب اليسار.

وفي أثناء التحضير لما سمي بالربيع العربي كان اليسار العربي المتطرف يواصل العمل مع الإخوان المسلمين. ويتابع تيري ميسان بأن غليون وصبرا وكيلو هم وحدهم الضمانة اليسارية المتبقية اليوم (للثورة السورية) المزعومة، وبأن يساريتهم مزيفة لأنها ليست في خدمة الإنسانية، بل في خدمة الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية. وتنطبق نتيجة تيري ميسان هذه على جلال صادق العظم وعزمي بشارة وأتباعهما من كتاب محليين صغار انتفخوا بالسم المالي القطري، وتمركز نشاطهم حول التعبئة السياسية وتشويش وعي الناس وتوسيع مساحة التعصب الديني، وإقحام أطروحات المحافظين الجدد وخلق الوهم لدى أكبر شريحة اجتماعية ممكنة لإزاحة نظرها عن حدود الدم التي رسمها هؤلاء المحافظون وتلطيف عدوانهم الثقافي وتحويله إلى فعل ثوري تقدمي يجر هذه الشريحة إلى المذبحة على إيقاع حرية وكرامة لا يملكها (فلاسفة الثورة) ولا رسلهم، لذلك سرعان ما وضبت الهتافات الملفقة وأقفل عليها في أرشيف – العربي الجديد والحوار المتمدن والفضائيات الموظفة أمريكياً في الحرب النفسية – ليستمر في تمزيق غشاء طبل السماء شعار ديني وحيد لم يكن في الرصيد المعرفي التراثي للشارع غيره، وكان يتلى في الطرقات وعلى الأسطح وعند قطع الرؤوس وإثر الغارات الجوية الاسرائيلية على مواقع جيشنا، إلى أن بدأ رموز التيار المهزوم ومرتزقة عزمي بشارة يرددون نغمة سرقت الثورة السلمية… سرقت الثورة السلمية.

أما مستوطنات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية المنتشرة في العالم تحت اسم منظمات المجتمع المدني التي تحولت عندنا إلى دور عبادة (لفلاسفة) التبشير اللبرالي الجدد، فيعرّيها المفكر الماركسي سمير أمين مشيراً إلى الخطاب السياسي الهابط لمروّجي مصطلح المجتمع المدني من النخب التي تخلت عن مواقفها اليسارية السابقة. ويقول إن الطفرة في المنظمات غير الحكومية تتجاوب مع استراتيجية العولمة الهادفة إلى تكريس التبعية وإعادة إنتاج التخلف في ظل مشهد الإسلام السياسي.

ويؤكد أن مصطلح المجتمع المدني أمريكي الأصل، يشير إلى عداء الدولة من حيث المبدأ ويجد مرجعيته في قبول مبادئ اقتصاد السوق الرأسمالية بعيداً عن الطابع الطبقي، وأن منظماته تضع على قدم المساواة القوى الرجعية والتقدمية، وأن هذه المنظمات لا تعدو كونها حزم وصل توظفها القوى الاستعمارية، كما يؤكد أن المصطلحات المطروحة في إطار الموضة الأمريكية هي إيديولوجيا غير علمية تنتمي إلى الماضي.التعريف التفصيلي الذي يعرضه سمير أمين هنا يظهر نقيض الرؤية الطبقية الماركسية للمجتمع المدني التي تعتبر الدولة هي الصيغة الرسمية لهذا المجتمع الذي ترتبط صيغته الفكرية الحالية بالعولمة النيوليبرالية والرؤية التي قدمها هنتنغتون له كحركة انتقال نحو الديمقراطية تجمع في طياتها تحالفاً من اليساريين السابقين والرجعيين الدينيين، وهو ما جعل المعارض السياسي الأمريكي نعوم تشومسكي، الذي يوصف اليوم كأكبر مثقفي العالم، يرد بحدة على أطروحة هنتنغتون نافياً وجود صراع حضارات عندما يكون المتسبب في تحويل مروجي (العالمية الإسلامية) من جماعات هامشية إلى حركات مؤثرة هو أحد أكبر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة – والمقصود بالمتسبب السعودية – وهي إشارة واضحة إلى اصطناع هذا الصراع، وتأكيد لدور القوة الدموية في فرضه عنوة على العالم عن طريق ذلك التحالف الهجين.

المزيد من الحقائق تتكشف كل يوم ومنها كتاب (المحنة السورية.. لماذا أخطأ الغرب؟) للمستشرق فريديريك بيشون، ترجمة الكاتب عدنان عزام الذي ذكّر في مقدمته بكتاب آخر نشره السفير التونسي السابق ميزري حداد بعنوان (الوجه المخفي للثورة التونسية) فضح فيه المنظمات غير الحكومية كمنظمات وهمية تابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية قامت بإغواء الشباب ونظمتهم ليقوموا بالدور المحدد لهم. أما كتاب المحنة السورية نفسه فتحدث عن افتضاح أمر هذه المنظمات، إذ تبين للجميع ارتباطها ببرامج أمريكية رصدت لها ملايين الدولارات للعبث بمقدرات الشعوب، مؤكداً أن ما حصل في سورية بالفعل أقل من انتفاضة وأكبر من مؤامرة، كما أكد اصطناع الحدث السوري ودور الإعلام المزيف والطابور الخامس، وقال: (نعلم أنهم لم يكونوا سلميين بل متمردين مسلحين، وكان القناصة مختبئين في الأبنية، وكل هذا حصل في الشهر الثاني لما سمي بالثورة السلمية)- ص54. كما قال: (إننا لا نستطيع الغوص في أسباب التمرد في سورية دون الأخذ بعين الاعتبار هجوم العولمة وتأثيرها الكاسح على الفضاء السوري)- ص 39.

وأخيراً.. من أجل المصالح الاقتصادية الغربية التي تطلبت إزاحة العقبة السورية من طريق نقل الطاقة من الخليج الى أوربا، ومن وجه ما تعتبره واشنطن حقها في الهيمنة والإطباق على وسط آسيا والشرق الأوسط بذرائع حقوق الإنسان والديمقراطية جرت التضحية بحياة مئات الآلاف من السوريين وملايين من المهجرين، ودمرت معظم المدن السورية ويعيش من بقي أسوأ ظروف يمكن أن تمر على شعب من الشعوب في القرن الحادي والعشرين، وما زال المبشرون الليبراليون الجدد مستمرين في الحقن الطائفي والمذهبي ونشر الأكاذيب حول الثورة وسرقة الثورة ومجمل طبيعة الصراع، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن ميشيل كيلو أهم ناشطي المجتمع المدني السوري يقف على أطلال المدن المهجورة مصرحاً لخليل صويلح في جريدة (الأخبار) اللبنانية بأنه في أسعد لحظات حياته، فالثورات المشتعلة قد أعادت إليه الروح.

العدد 1105 - 01/5/2024