ما أبهى هذا الغلاء؟!

كانت ليلة الأحد حامية رغم برودة الطقس.. نام المواطنون على وسائد رياش النعام،  والفرح يتدحرج على وجوههم ويتساقط دُرراً في غمازاتهم، واشتعل الفضاء بالألعاب النارية وثقبت الزغاريد الآذان بهجة بقدوم لهيب الأسعار المجنون.

ليس بالغلاء وحده يحيا الإنسان.. وليس بالرغيف وحده يحيا الإنسان أيضاً، بل بجنون الأسعار والتصريح الذي قال: (المواطنون هم من طالب برفع الأسعار!). فما أجملك وأنقاك وأصفاك أيها المواطن الذي ينحرك الغلاء وتظلّ واقفاً على قدمين من صوَّان وساقين من ذهب وفضَّة.. وقطار الغلاء والفساد يسير على سكتين ليس في هذا الزمان، بل منذ عتيق الأزمان.

ورفع (أطفال الخبز) في صباح الثامن عشر من شهر كانون الثاني شعارهم الجديد أمام أفران ابن العميد: (ربطة الخبز بـ 75 ليرة.. تفضَّلوا يا سادة يا كرام..؟). وبدأ تجار الجملة والمفرّق يتداولون أخبار المازوت والكهرباء والغاز، وانتظار ما بعد هذا الانتظار الموحش.. وقال أحدهم: (ليس بالجوع وحده يحيا الإنسان، بل بالبرد وحده) . وتمنيتُ أن تعرفوا أيها السادة خاصة في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، الطفلين الأخوين (نايف ويوسف) فهما لم يدخلا المدرسة بعد، وكيف كانا يحملان الكراتين من محل أبو مهند ويقطعانه.. وكيف تلتهمه المدفأة الخاوية؟!

وتمنيت أن تراقبوا ما يجري في بعض الحارات الشعبية،،كيف تُكسّر خزن الثياب والسحاحير وما كان يسمى بـ (النمليات) وهي في منتصف عمرهالوضعها في مِعَد المدافئ.وهل سمعتم يا سادة ماذا يقول الجار لجاره (إذا أردت أن تزورني فاحملْ بطانيتك معك .. ولا تنسى مصَّاصة المتّة).

الأسعار المجنونة أو جنون الأسعار، مثل ثور هائج له قرنان يبقران المعد الخاوية، فتخرج الأمعاء أو أجزاء منها، وتسيل الدماء..

لقد مُسحت الخطوط الحُمر ولم يبقَ منها إلاَّ أشباه خطوط من التي كُنَّا نرسمها في يقظتنا وأحلامنا، وكانت الوقود الذي يحافظ على حرارة قلوبنا ويمنعها من التجمّد! ولم يتأسفْ المواطن كثيراً على مسح خطين أو أكثر منذ سنوات مثلاً: (كخط الشاي وخط الرز وخط الزيت النباتي)، فالمعونات التي تقدم لـ 12 مليون مواطن حسب الإحصائيات التي تتكرر، يمكن أن تكون البديل، أو تحتلّ المكانة نفسها.. ولكن يبدو أنها أصبحت في خبر كان..!

هناك تناقضات ومفارقات سخية بعطاءاتها يمكن رؤيتها بالعين المجردة، ولا حاجة للقيل والقال والتقوّل. فعندما مررتُ بأحد شوارع المدينة لم أصب بالذهول بقدر ما لفت نظري الازدحام الكثيف عند بائع الشاورما.. وبعد خمسة أمتار ازدحام آخر مماثل عند بائع الفلافل ثمَّ أسلاك وسُخام وبرميل وأشرطة محروقة سوداء.. وظلَّت الرائحة تتشبَّث بي وترافقني لعشرات الأمتار حتى أُصبتُ بالزكام.

ويعلم القريب والبعيد ومن يقرأ أو يسمع ويناغي في السرير، أنه منذ أربعة أشهر بالتمام والكمال فرفع المازوت من 60 إلى 80 ليرة لليتر. واليوم تضاعف السعر وبلغ 125 ليرة أي بنسبة 57 في المئة، لكن (سادكوب) التي وزعت ثلاثة صهاريج في حي (الدويلعة) باعت التنكة بـ 2600 ليرة! وبيعت اسطوانة الغاز بـ 1800 ليرة! وأصبح الرغيف في سباق مع المستهلك الغلبان صاحب الدخل المحدود، ومالك عربة الخضار ومن يتمددون على الأرصفة يبيعون مختلف السلع والأدوات.. ومَنْ لا أجر شهري لهم أو راتب يجنّبهم الخطر من مداهمة ارتفاع الأسعار كل شهرين أو خمسة أشهر! فالرغيف يركض بسرعة عشرة أضعاف أكثر من سرعة المواطن، الذي يزحف على ركبتين تآكلتا وأصبحتا بحاجة إلى مفصلين من فولاذ.. ويقول الرغيف وهو يتضاحك ساخراً ويرفع رأسه بشموخ: إذا كنت قادراً أيها المواطن فضاعف سرعتك والْحق بي؟وما أجملك أيّها الغلاء لأنّك تدللني وتميّزني عن الآخرين..؟!وهل يمكننا القول إنَّ هذه الإجراءات هي (عقلنة الدعم..؟).

العدد 1107 - 22/5/2024