عيشها غير..

وهل كان العيش ليس (غيراً) من قبل ليصبح (غيراً) من بعد؟! لطالما أخذتنا هذه الجملة بمركبها اللغوي الذي سوف نجد سجالاً عليه، ينشغل في الأعم الأغلب بصحة التركيب ونسبه اللغوي وضبط نسبته مع صحة اللغة، وذلك ما يخلق جدلاً صريحاً مع اللغة بوصفها هوية وما يستدعي في سياقها أسئلة كثيرة تطرق باب مجمع اللغة العربية، فمن أسماء المطاعم إلى مقاهي (الإنترنت) وكيف تجيد اللعب على العواطف العامة لتستقطب روادها، مروراً بما يكتب على الشاحنات العامة من عبارات ليست فصيحة إن لم تكن تفصح عن مزاج الشاعر والناس في لحظات متغيرة، تميل على الأرجح إلى استدعاء الدعابة، والظرافة وتبسيط الأمور حد رسم ابتسامة ولو عابرة، أو قهقهة عميقة تملأ ردهات الذات صخباً وحياة!.

لكن المسألة لا تأخذ كل ذلك الجدل وهو محق في تصويب ما التبس، وما يصبح بحد ذاته إشكالية إضافية لا تنقصها حياتنا المعاصرة، لأن المسألة ستذهب إلى معيار آخر هو فقه العمل، فقل لي ما تعمل لأقول لك من أنت. وعليه تحضر ثقافة العمل بوصفها المعيار الحقيقي لجملة تبسط حاجتنا للعيش غير، وهذا الغير المختلف هو الأكثر استبطاناً لشكل جديد من الحياة يناهض الموات والتردد والصمت. اللافت هنا أننا نميل إلى الكلام بوصفه أفعالاً منتظرة، ولا نميل إلى الأفعال بوصفها كلاماً قد أُنجز، فالمتشاركون في العيش من حقهم أن يبتدعوا غير طريقة وغير أسلوب لا لينأوا عن أدوارهم بما يمكن أن يسهم في رسم لوحة الإبداع الكبرى، بتكامل جزئياتها وتناغمها.

تبدو مرويات السوريين خارج ما يختارونه من عيش كأنها تُبدع أقدارها الأخرى، بمحض المصادفات أو الضرورات، فهم من يسبقون الحياة إلى الحياة، فكل دقيقة حياة هي صيرورة جديدة لأعمار تتجاوز قلق وجودها لتبدع خارج متخيل الواقع ذاته في يومياتها المختلفة التي تحفر مجراها كأنهار تتفجر من صخر أيامها، لتبدع ابتسامة لنهار وتمسح دمعة القلب بأصابع اللأرواح الحانية، ويبقى أن السخرية لا تُواجه إلا بسخرية مضادة، فمن كانت أصابعه مرتعشة فلا يمكنه أن يصنع تاريخه. يتساءل أحدهم عن ماهية العيش الجديد، وهو يلهث وراء حافلة تتسع رغم اختناقها وكأنها أرض واسعة، وهو يضم راحتيه عل دفئاً عابراً تختزنهما، ويقول لصغاره: أشعلوا الكلمات نوراً خيراً من أن تلعنوا الظلام! وتتساءل عجوز طاعنة في الانتظار: هل أفسر الوقت بحفل جنون جماعي؟ حتى الحلم يستعصي على الحضور ولو قليلاً، حتى الكلمات أصبحت تشبه ذاتها، لكن العجوز التي مشت بها أعوامها، تقول مازلت قادرة على صنع الرغيف للجياع، ومازالت النار كامنة لأهمس في أذنها لتدفئ أوصال النهار. يتساءل بائع الورد: هل الورد أسبق من الرغيف؟ لكنه سرعان ما يمنح وردة لصغيرة تتأبط كتبها المدرسية، فيبتسمان وتمضي الصغيرة بحبور فائق إلى مدرستها القريبة، فلماذا نختلف على المبنى مادام المعنى هو ما يعنينا ويأخذنا إليه لننتجه أفراداً، أو جمعاً، لكأن الحياة لا تستقيم إلا بمن ينظر من أعلى الشرفات إلى حيث تصل الشمس، علها في قلبه قبل أن تطأ آخر الأرض.

ولمفارقاتنا الحياتية أن تظل روايتها صالحة للخيال، لأن الواقع قد نأى ليصبح بذاته متخيلاً، وليس السؤال الجواب ما الذي نفعله، بل ما الذي لا نفعله، ونحن مازلنا نتقرى شمسنا ونمتلئ ضحكاً على قدر يشبهنا حد الرثاء، وهو من يمضي كخواتيم الروايات ليبتدئ من جديد، لا يظل نهار على حاله، فهو من يتجدد في ديوان الأرض كقصيدة كلما قرأتها، اكتشف بها طرائد جديدة، وما تنفك السخرية تسخر حتى من ذاتها، لتضحكنا رغم نزيف تحت جلد الحكايا، فلا عزاء لعبارة قالت: هل تبعتموني دون أن تتعبوني!.

العدد 1107 - 22/5/2024