سعيد حورانية من رواد القصة القصيرة في سورية

ولد سعيد حورانية في دمشق عام ،1929 وتخرج في جامعتها، وعمل في التدريس في دمشق والسويداء والحسكة وفي لبنان.

تعرض للاعتقال أكثر من مرة، نتيجة مواقفه الفكرية، وكتب القصة القصيرة والمقالة والمسرحية، واهتم اهتماماً كبيراً بفن القصة القصيرة. إذ مرت القصة السورية الحديثة بعدة مراحل، من مرحلة التأثر والتكوين والنمو في مطلع الثلاثينيات، إلى مرحلة الازدهار والتفتح في عقد الخمسينيات، وإبداع قصة سورية تميزت بموضوعاتها السياسية والاجتماعية، بظهور أول مجموعتين مكتملتين فنياً، الأولى (تاريخ جرح)، لفؤاد الشايب عام ،1944 والثانية (بنت الساحرة) لعبد السلام العجيلي. وسعيد حورانية هو أول من ربط القصة القصيرة بالواقع اليومي، ووظف الطريقة الوثائقية في بناء قصصه (قيامة أليعازر) و(عريظة استرحام).

كما يرى رياض عصمت في دراسته لاتجاهات القصة السورية القصيرة إلى ريادة سعيد حورانية لاتجاه الواقعية الاشتراكية في القصة السورية القصيرة، وكذلك عبد الله عبد. ورأى أن سعيد حورانية لعب الدور نفسه الذي لعبه غوغول في القصة الروسية. كما أن حورانية هو واحد من الرواد الرئيسيين الثلاثة لاتجاهات القصة السورية القصيرة الفنية مع عبد السلام العجيلي وزكريا تامر.

والواقعية الاشتراكية نظرية أدبية اقترنت بالواقعية النقدية وظهرت بظهور الفكر الاشتراكي، وتعني نقد الواقع وفهم حركته وتطوره من منظور تاريخي، واشتراكي. ويرقب بذور المستقبل والعوامل الإيجابية الفعالة في سبيل مستقبل أفضل وإنسان جديد.

ويرى الناقد أحمد محمد عطية أن قصص سعيد حورانية المجموعة في (شتاء قاس آخر) تتراوح بين التقنية الفنية الجيدة والأداء الفني الحديث، وبين الخطابية والوصف الخارجي، ولكنها تتفق جميعها في تقدمية المضمون، والعناية بالواقع الاجتماعي والاحتجاج ضده ورفضه.

وتصدر من منظور تقدمي إنساني، يثق في قدرات الإنسان وصلابته ومقاومته الإنسانية على الرغم من عوامل ضعفه أو فقره، فنجده يشير إلى هذا المحتوى الوارد في القصص قائلاً:

(إليك يا حنا مينه يا من فهمت الضعف البشري والقوة الإنسانية). وفي مجموعته القصصية (شتاء قاس آخر) يتوجه إلى القارئ: (هذه القصص جزء من عمري، ومن عمر وطني سورية، كنت أحب لها أن تصل إلى يدك… منذ زمن طويل، ولكن الظروف البائسة التي عاشها الوطن، سنوات عجاف مظلمة، والتي طحنتنا رحاها، فلم تزدنا التجربة إلا إيماناً بشعبنا العظيم، لم تتح لها أن تظهر).

وقصة (الصندوق النحاسي) من القصص المتميزة لحورانية في مطلع الخمسينيات، جمع فيها بين نموذجين للضعف الإنساني والقوة الإنسانية، وبتقنيتها الفنية في التنقل بين الأزمنة والأمكنة والشخصيات والجمع بين التقنية الفنية الحديثة والمحتوى الاجتماعي والإنساني.

هذه القصة تتحدث عن أم فقيرة كادحة وابنها الذي كافحت من أجله حتى أصبح طبيباً، إذ صدمته الفاجعة بموت أمه التي عملت خادمة وغسالة وتحملت المشاق ودفعت به إلى الصعود من هاوية الفقر والمرض، والانتقال إلى مصاف طبقة أعلى، سرعان ما تخلص من الأم وتركها مهملة في منزلها القديم بعد أن تزوج بإحدى بنات طبقته الجديدة. فيكتشف هذا الطبيب مدى خواء حياته وضعفه إزاء الأم القوية، والتي عثر على أوراقها مخبأة في صندوقها النحاسي، وعرف كيف كانت تناضل وتتحدى مرضها وضعفها حتى تتعلم القراءة والكتابة لتتخلى عن جهلها، كما وجد حذاءه القديم الذي ضرب به أمه في صباه، محتفظة به في صندوقها النحاسي. لقد جمعت هذه القصة الضعف الإنساني، والقوة الإنسانية، وقدرة الإنسان على تحدي واقعه المهين وضعفه وفقره من خلال أم كادحة جاهلة ضعيفة.

(…لم يكن في الصندوق سوى صورة لشاب يشبهني، وأظن أنه أبي.. وشيء آخر، وغصصت بريقي.. حذاء صغير وسخ. هو نفس الحذاء القديم الذي كنت ضربتها به يوماً في إحدى ثورات غضبي).

وفي مجموعته القصصة الأولى (وفي الناس المسرة) التي كتبت عام 1953 قدم له حنا مينه قائلاً:

(… وفي الناس المسرة، ليس هذا بالعنوان الضخم.. إنه بسيط كالناس الطيبين، إلا أنه انتزع إعجابي، كدت أقول تصفيقي.

أخي سعيد: عفوك عني، كدت أنساق مع عاطفتي، فأدعك وأتحدث عن نفسي، ولكن في الحقيقة، من هو سعيد، ومن هو حنا، بل من هو شوقي ومواهب وصلاح وحسيب.. ومن هم هؤلاء الذين اجتمعوا على أنبل ما يمكن أن يجتمع الناس عليه: السلم والحرية.

ويجب أن أقول: إن عنوان كتابك حملني على أجنحة غير منظورة، انتشلني من حاضري ونقلني إلى مستقبلي، ثم أوقفني في دائرة ضوئية، تحت حزمة وهاجة من نور الفكر الإنساني).

وفي المجموعتين التاليتين: (شتاء قاس آخر) و(سنتان وتحترق الغابة) نجد هموماً متنوعة مختلفة ونضجاً فنياً في معالجة الموضوعات، فقد سلك القاص حورانية مسلك الواقعية النقدية المشبعة بالسخرية والقدرة في الوقت ذاته على القبض على نبض الحدث والإحساس به، كما يشير أحمد جاسم الحسين إلى ذلك في كتابه (خبز الواقعية المر).

وقدرة سعيد حورانية على نقل همومه تاركاً للسرد أن يأخذ مداه في زرع أفكاره وتركيزه على الجوانب النفسية للشخصيات والتركيز على القمع الاجتماعي وحضور المكان والاهتمام بالشخصيات الشعبية وتنوع أساليب السرد.

وفي (في الناس المسرة) نجد تنوعاً لأساليب سردية، فقد وظف أسلوب الرسائل، والبناء المقطعي، وقد نجت بدايات قصصه من المقدمات الوصفية.

وتثير هذه المجموعة عدداً من القضايا الفنية على مستوى اللغة، وصراع الفصحى والعامية، وتبرز مشكلة الاستطراد اللغوي، والاستغراق في الوصف، والغرق في المونولوج الذاتي.

ويقول سعيد حورانية: (ربما كنت واحداً من أكثر القصاصين السوريين كتابة عن حيه وبيته، فقد كتبت مجموعتي الأولى (وفي الناس المسرة) عن علاقتي مع عائلتي بالذات.. عن ثورتي عليها.. وأول اهتدائي للأفكار المخالفة لأفكارها وصراعي معها، والصراع بين العاطفة العائلية في مجتمع متخلف. المجموعة الأولى تعكس بالضبط تلك الأجواء العائلية الاجتماعية التي اصطدمت بها، فصورت صراعي معها، صراع رجل مع مفاهيم لم نؤمن بها، وخروجه من عائلته، وكان هذا في ذلك الوقت شيئاً ثورياً. ثم إنني كما قلت قبل قليل كنت أجهر بآرائي بين شباب حيي مما أثار المشايخ).

إن انفصال حامد لم يكن مجرد تمرد الشباب بل كان انفصالاً طبقياً، هذا الصراع بين حامد وأهله، بين الشباب والشيوخ، بين الحاضر والماضي، سوف يأخذ صورته وبُعده الاجتماعي الواضح.

وفي قصته الثانية (وأنقذنا هيبة الحكومة) نلمس مرة ثانية صوراً من صور الضعف البشري والقوة الإنسانية، من خلال صور الاحتجاج والرفض للظلم الاجتماعي، وتتأكد قوة الإنسان وصموده وصلابة مقاومته في شخصية صالح السلمان التي تتحدى قوة العسكر وتطلق عليهم النار رافضاً الاستسلام لاقتلاعه من أرضه التي يزرعها لصالح الإقطاعي (الشيخ دعيبس). وتعرض القصة صور الاضطهاد والتعذيب البشع للبدو الضعفاء والفقراء، والأقوياء في مقاومتهم ورفضهم للخيانة وتصوير الكاتب لأبي حاتم كأنموذج لرجل السلطة العميل للاستعمار الفرنسي.

(كان الوكيل أبو حاتم الجرو رئيس مخفر غونه، رجلاً هماماً بكل معنى الكلمة، فإلى جانب نشاطه الهائل في اقتناص الغنم الشاردة، وتقديمها طعاماً للجنود وتوفيراً على الدولة، كان يؤمن لجنوده مصروفاتهم البيتية، فمن شوالين من الحنطة، إلى سبع تنكات سمن،…، لقد استطاع هذا الوكيل الصلب طوال عشرين عاماً قضاها في الجيش.. أن يكسب ثقة رؤسائه التامة رغم تغير العهود).

وقصص سعيد حورانية تتراوح بين الأداء الفني الحديث وبين الخطابية والوصف الخارجي، ولكنها تنطلق من رؤية اشتراكية، ومن منظور تقدمي، ويتطلع حورانية من خلال صراع ومصائب شخصياته إلى المستقبل الأفضل.

كشخصية (حمد ذياب) المناضل الذي تحدى الفرنسيين وقاومهم، وتحمل عبر السنين سجونهم ومنافيهم، وصمد لتعذيبهم. في هذه القصة يؤكد سعيد حورانية استمرار الثورة والنضال الاجتماعي والوطني ضد الاستعمار القديم، كما نجد توظيفاً لأبيات كثيرة من الشعر الشعبي في هذه القصة. ويحرص حورانية على تذييل قصته بختام وعظي مباشر.

وفي وصف جزيرة (سان مارتان دوبري) في قصة (حمد ذياب) يقول: (هل سمعت بالغويانا يا سيدنا؟ أنت تلاحظ أنني أرتجف.. إنها بلد ملعون مطعون لا يمكن أن يعيش فيها إنسان.. كانت الأمطار تنزل عشرين يوماً كاملة.. كالسيول، مع أن درجة الحرارة (40) شتاء وخمس وخمسون صيفاً. كان السجناء يموتون تحت ضربة الشمس مثل الذباب..).

في قصة (الطفل يصرخ في الظلام) يشغله الهم الاجتماعي من خلال الإنجاب وأثره على الحياة الزوجية.

وفي قصة (الساقان السوداوان) يتوقف عند حكاية العهر والمعاناة والكرامة، وفي قصة (أوسمة الشيطان) مكاشفة حادة للنفس الإنسانية في لحظة تأمل.

فمكان الصراع في عالم حورانية القصصي متسع من المحافظات السورية إلى جزر سان مارتان. وسعيد حورانية يلتصق وينحاز إلى قوة الشعب. وقصصه كتبت باللغة الفصيحة وتقترب أحياناً من اللهجة العامية، ويجنح بعضها نحو الوثائقية والحرص على رصد السيرة الذاتية من خلال رؤية ثائرة متمردة هادفة إلى واقع ومستقبل أفضل.

العدد 1105 - 01/5/2024