هيغل ونهاية الأصـوليات

 الانتفاضات التي عصفت بالعالم العربي منذ عام 2011 قرئت بالإجمال قراءات سياسية ولم تكن إلا نادراً موضوعاً لقراءة فلسفية تستلهم حركة التاريخ وتوجهاتها. هل هو فوضوي أم أنه يمشي في اتجاه المزيد من العقلانية والأخلاق والنظام والحرية؟ هل هو عشوائي أم أنه يهدف إلى تحقيق السعادة للبشر على هذه الأرض، وكذلك تحقيق التقدم مادياً ومعنوياً؟ هل الثورات والحروب وما ينجم عنها من كوارث وفواجع وتضحيات كبرى هي محن عبثية للإنسان لا معنى لها سوى عذابه وقهره أم أنها مخاض لعالم ومجتمع جديدين؟

إزاء هذه التساؤلات المربكة يستلهم هاشم صالح في (الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ) (دار الساقي 2013) بعض أطروحات الفيلسوف الألماني هيغل، أنه هو (أصل كل ما يحصل من أشياء عظيمة في مجال الفلسفة منذ مئة سنة) على حد تعبير ميرلو بونتي، وربما كان آخر فيلسوف شمولي في التاريخ.

في رأي هيغل، إن التاريخ عقلاني، على الرغم من أنه يبدو لنا فوضوياً، مليئاً بالحروب والظلم والقهر والتناقضات، لأن العقل هو الذي يحكم العالم والتاريخ، طبقاً للرؤية الهيغيلية المتفائلة. فالتاريخ كان عقلانياً وسيبقى، على الرغم من كل المظاهر الخادعة والفظائع الجنونية التي قد توهم بالعكس.

والتاريخ طبقاً لتصورات هيغل، يسير باتجاه هدف معين هو الوعي بالذات الذي يجعل الإنسان حراً. فمسيرة التاريخ الكوني هي مسيرة عقلانية، والعقل هو الذي ينتصر بنهاية المطاف، وكذلك النظام والحياة الرغيدة للشعوب. وهذا ما تحقق بالفعل في أوربا. لكن النظام الجديد السعيد، نظام دولة القانون والمؤسسات والمساواة، لا يتحقق إلا بعد المرور بمرحلة الفوضى الخلاقة المدمرة، أي التي تدمر أسس النظام القديم وتكلف الناس تضحيات كبيرة ومرعبة. وعلى هذا الأساس رأى المؤلف أن فلسفة التاريخ تعلمنا أن استخدام السلبي للتوصل إلى الإيجابي شيء ضروري جداً، وما يحصل من كوارث وفواجع اليوم في سورية أو العراق أو اليمن أو في أي مكان من أرض العرب، ربما كان ضرورياً لولادة العالم العربي الجديد.

من هذا المنظور لن تذهب عذابات الشعوب العربية وتضحياتها سدى، إذ باكتوائها بنار الأصولية تتحرر منها لاحقاً. هذا هو ديالكتيك التاريخ أو قانونه الأعظم الذي اكتشفه هيغل، والذي يرى أن الحروب الأهلية والصراعات الطائفية وتطاحنات البشر العنيفة ليست إلا (المواد الخام) التي يستخدمها العقل لكي يحقق مبتغاه، في حرية البشر وسعادتهم، فالعقل يتوصل إلى مبتغاه عن طريق اللا عقل، وهنا بالذات يكمن (مكر العقل).

هكذا، سوف يكتوي العرب بنار الأصولية فترة من الزمن، قبل أن يتحرروا منها، ينبغي أن يمروا بها لكي يتجاوزوها. هذه هي مهمة العامل السلبي في التاريخ، وهو أخطر بكثير من العامل الإيجابي وأكثر أهمية، فمحال الوصول إلى نتيجة قبل دفع الثمن باهظاً. ومن هنا يجب ألا نخاف من الكوارث الجارية حالياً، على الرغم من بشاعتها ووحشيتها، إنها الثمن المدفوع لكي ينبثق النور في نهاية النفق المظلم، أو بالأحرى، التضحية الإلزامية التي تدفعها الشعوب السائرة نحو الانعتاق والحرية.

فالمؤلف متفائل بما يحصل الآن، فحركة التاريخ العربي في رأيه، تتقدم إلى الأمام في الوقت الذي تبدو فيه كأنها تتراجع إلى الوراء. هنا يكمن (مكر التاريخ).

ستحصل مزاوجة بين التراث والحداثة في نهاية الصيرورة التفاعلية، وسوف يتمخض كل ذلك في نهاية المطاف عن الحداثة العربية الإسلامية. إلا أن الثورة التنويرية العربية لن تحصل قبل أن ينتصر التأويل الجديد للإسلام على الفهم الإكراهي القديم للدين. ومن هنا اندلاع المعركة على مصراعيها بين الأصوليين والمثقفين المستنيرين في بلدان الانتفاضات، من محاكمة عادل إمام، وسيطرة الأصوليين على الشارع في مصر وتخويفهم النساء والصحافيين وحرية الفكر عموماً، وإعادة إحياء عقلية محاكم التفتيش من جديد، والاتهام بالزندقة الذي طاول مجموعة من رموز التنوير العربي من نجيب محفوظ وعادل إمام، إلى الافتئات على المسيحيين وإعادة الاحتكام إلى الشريعة مصدراً رئيساً للتشريع في مصر خلافاً لدستور 1923 الذي نص على المساواة المواطنية الكاملة.

إن الثورة الفكرية لم تحصل بعد في عالم الإسلام، وهي وحدها التي ستُدخل العرب في التاريخ بعد خروجهم منه عدة قرون، فليس كافياً الاحتكام إلى ديمقراطية منزوعة من قاعها الليبرالي، لأن الأساسي هو التوصل إلى النظام الليبرالي الحديث. لكن العرب في رؤية المؤلف المتشائمة ليسوا سائرين في هذا الاتجاه، بل في الاتجاه المعاكس. إلا أن (الربيع العربي) مع ذلك دشن حراكاً تاريخياً لن يتوقف قبل أن يحدث تغييراً جذرياً في المجتمعات العربية. وقد أثبت مسار الانتفاضات العربية توقعات المؤلف، إذ لم تلبث الأصوليات الظلامية في مصر وتونس أن آلت سريعاً إلى الانكفاء ويتقدم الأمل مجدداً في التحول الليبرالي الموعود.

إن الكتاب يمثل قراءة فلسفية جديدة للانتفاضات العربية على الضد من القراءات المتسرعة، المتفائلة والمتشائمة على السواء. وقد أكد فيه مؤلفه ما كان قد دأب على تأكيده في مؤلفاته السابقة، وهو أن الثورة الفكرية هي التي تمهد للثورة السياسية، وأنها لن تكون من خلال العودة إلى الماضي، إنما بالقطيعة معه. كما أن للفلسفة دوراً مركزياً في الحراك الثوري، إذ في رأيه، لا حرية من دون فلسفة، ولا ديمقراطية ولا حضارة من دون فلسفة، وليس غريباً إذاً أن تكون الحضارة العربية الإسلامية قد ماتت بموت الفلسفة وتكفير الفلاسفة.

(مركز أبحاث الماركسية واليسار)

العدد 1105 - 01/5/2024