دمشق وأحمد شوقي… الحب في زمن الانتداب

في عشرينيات القرن الماضي لم تكن دمشق مدينة تعج بالكتاب والمثقفين كما كانت القاهرة، ولم تكن مدينة الكتب والدوريات ودور النشر كما كانت بيروت، لكنها كانت معشوقة الشعراء ومصدر وحي للكثيرين منهم بفضل تاريخها العريق الضارب الجذور نزولاً حتى بدايات الحضارة، والممتد صعوداً حتى شرفة مئذنة الجامع الأموي. كما كانت أشجار الغوطة تلقي بأطايبها في حضن أبيها بردى الذي يجري بها صوب الحارات الدمشقية الغارقة بالياسمين. إضافة إلى ذلك كانت دمشق رمزاً مهماً من رموز العروبة بعد أن أصبحت عاصمة للمملكة السورية التي قامت بعد دحر الأتراك العثمانيين بواسطة قوات الثورة العربية الكبرى والجيش الإنكليزي، لكن تلك المملكة لم تعمر إلا شهوراً قلائل سقطت بعدها تحت نير الاحتلال الفرنسي، الذي واجه قبل دخوله من بوابة ميسلون جيشاً صغيراً من رجال دمشقيين آثروا الموت برصاص الطائرات والدبابات الفرنسية على إحناء رؤوسهم للمحتل. وكان أبرز الشهداء وزير الحربية يوسف العظمة الذي لا يزال يتصدر قائمة الأبطال الذين حفرت أسماؤهم في ذاكرة السوريين ووعيهم.

ونظراً للمكانة التي تتمتع بها دمشق في الوطن العربي فقد سرت أخبار ملحمة ميسلون سريان النار بالهشيم، وبينما كان الوجوم هو سيد الموقف في دمشق وما حولها أطل أمير الشعراء أحمد شوقي بقصيدة مطلعها:

حياةٌ ما نريدُ لها زيالا

ودنيا لا نودُّ لها انتقالا

وقد خلد بهذه القصيدة معركة ميسلون وبطلها الشهيد، مستهلاً الكلام بأبيات عن الحياة والموت والبطولة، ثم دعوة السوريين إلى التكاتف والوقوف في صف واحد، والإشادة بمواجهتهم المشرفة للفرنسيين. ثم أنهى قصيدته بأبيات رائعة تتحدث عن بطل المعركة يوسف العظمة بأسلوب بديع يصف فيه أهوال المعركة والجحافل الفرنسية من جهة، ووقفة البطل وصموده في وجهها من جهة أخرى؟ ومن ثمة تشبيه استشهاده بغروب الشمس عن ساحة المعركة قبل أن يختم بأبيات تحدثت عن خلود البطل وبقائه حياً في ذاكرة الأجيال:

إذا مرَّتْ بهِ الأَجيالُ تَتْرَى

سمعتَ لها أزيزاً وابتهالا

تعلَّقَ في ضمائرِهمْ صليباً

وحلَّقَ في سرائرِهمْ هلالا

واستمرت زيارات أمير الشعراء إلى دمشق برفقة محمد عبد الوهاب، وكان يستقبله بحفاوة وجهاءُ دمشق وخاصة فخري البارودي الذي كان منزله مفتوحاً باستمرار لضيوف دمشق الكبار من فنانين ومثقفين. وفي ذلك المنزل وبالتحديد في صيف سنة 1925 أتم أحمد شوقي قصيدته الخالدة في دمشق ومطلعها:

قُمْ نَاجِ جِلَّقَ وانْشُدْ رَسْمَ مَنْ بَانُوا

مَشَتْ عَلَى الرّسْمِ أَحْدَاثٌ وَأَزْمَانُ

وقد ألقاها نيابة عنه نجيب الريس في قاعة المجمع العلمي، حيث دوى التصفيق طويلاً للقصيدة ومبدعها. فقد وضع أحمد شوقي بهذه القصيدة كل ما يكنه لدمشق من حب وإعجاب بتاريخها الأموي العظيم وإنجازاته ووصله الشرق بالغرب والحنين الذي يحسه المرء نحو تلك الأيام الجميلة. ثم يتفنن أمير الشعراء بوصف الغوطة والمتنزهات وجريان بردى فيما بينهما بأبيات لا يزال الدمشقيون يرددونها حتى الآن:

آمَنْتُ بالله واسْتَثْنَيْتُ جنَّتَهُ

دِمَشْقُ رُوحٌ وَجَنَّاتٌ وَرَيْحَانُ

جَرَى وَصَفَّقَ يَلْقَانا بِها بَرَدى

كَمَا تَلقَّاكَ دُونَ الخُلْدِ رضْوانُ

ولم ينس الشاعر الإشارة إلى أهل دمشق وكرمهم وفضلهم، ومن ثم دفعهم نحو المزيد من العمل للحفاظ على وطنهم الذي لا مثيل له بين الأوطان ووجوب السعي نحو البناء والتطوير.

لكن الزمن لم يمهل السوريين سوى شهرين قامت بعدهما طائرات الجنرال ساراي ومدافعه بقصف دمشق على مدار أربع وعشرين ساعة انتقاماً من اندلاع الثورة السورية. وهذا القصف الهمجي ألحق أضراراً بليغة بالمباني والبيوت الجميلة في حي سيدي عامود الذي أصبح يعرف فيما بعد بالحريقة، وهذا الحريق قد اشتعل أيضاً في قلب أحمد شوقي ليخرج منه تحفة فنية أخرى تصيح بحرقة وأسى:

سلامٌ من صبا بردى أرقُّ

ودمعٌ لا يُكفكَفُ يا دمشقُ

وهي القصيدة التي غناها فيما بعد محمد عبد الوهاب. وفيها وصف كثير لأمجاد دمشق الغابرة وحضارتها التي شعت على العالم، ثم هول المصيبة التي ألمت بالمدينة العريقة ومبانيها التاريخية، وأحقية السوريين فيما يطالبون به، ودعوتهم للتجمل والصمود لأن ( للحرية الحمراء باب  بكل يد مضرجة يدق)، مع التأكيد أن مكانة دمشق ستظل كما هي رغم كل الأهوال و(عز الشرق أولُهُ دمشق). وفي ختام القصيدة يتغنى الشاعر بمناقب أهل جبل العرب وفضائلهم ويستنكر تحميلهم مسؤولية ما ألم بدمشق. وكانت آخر مرة خاطب فيها أمير الشعراء دمشق والدمشقيين حين فُجعت سورية بوفاة فوزي الغزي المعروف بأبي الدستور، أي دستور سنة ،1928 وقد طالته يد الغدر ودسَت له السم بعد سنة واحدة من صدور ذلك الدستور. فرثاه عدة شعراء منهم أحمد شوقي بقافية أخرى مطلعه:

جرحٌ على جرحٍ! حَنانَكِ جِلَّقُ

حمِّلتِ ما يوهي الجبالَ ويزهقُ

وهي تشبه سابقتها من ناحية رثائها للمدينة وأهلها، وذم الجناة الذين أزهقوا خيرة شباب دمشق. وقد أبدع الشاعر الكبير في تصوير أشجار دمشق ونهرها وهي مطرقة حزناً على فقيدها. وكعادته توجه لأهل دمشق برسالة هي الأخيرة قبل وفاته (سنة 1932)، وهي رسالة تصلح لزمننا الحاضر صلاحها للزمن الذي نظمت فيه:

منْ مبلغٌ عني شبولةَ جلَّقٍ

قولاً يَبرُّ على الزمان ويصْدُقُ

باللهِ جلَّ جلالُه، بمحمدٍ 

بيسوعَ، بالغزِّيِّ لا تتفرقوا

رغم أنه لم يتح لأمير الشعراء أن يشارك السوريين فرحهم بالجلاء، إلا أن العلاقة التي جمعته بدمشق في أصعب مراحل نتج عنها تحف فنية صيغت بيد عاشق ارتوى من ماء بردى، وفتن بشجر الصفصاف، ومخر عباب التاريخ بسفينة أموية. ولم يرض لمعشوقته أن تذل أو أن تهان فكان خير مدافع عنها وخير من استنهض الهمم للحفاظ عليها وعلى مكانتها الفريدة بين مدن عصرها.

العدد 1105 - 01/5/2024