الشرود

أفرزت الأزمة السورية التي طحنت رحاها الفرد والمجتمع بشكل عام، أمراضاً جسدية ونفسية، وأتلفت الكثير من خلايا الإبداع، ووسَّعت مساحات النسيان أو (السَرَحَان)، الذي سيؤدي حتماً إلى ازدياد التوتر والهذبان وعدم التركيز الذهني وتشتت الأفكار وتناثرها، وذلك بسبب انعكاس الأزمة المعيشية وانعدام الأمن والأمان على حياة الإنسان.

وفي ظلّ هذه الأزمة التي أغلقت الباب على سنوات أربع، وفتحت الباب الخامس لسنة جديدة وربما لسنوات، لم يعد ملايين السوريين بحاجة لقراءة (فرويد) وعلماء النفس الآخرين، حتى من الناس الذين لم يسمعوا بأن هناك علماء نفس يعالجون الأمراض التي تعصف بالمواطنين، ويفسرون أو يعلنون جهْراً أسباب الصدمات التي انهالت على رؤوسهم. ويمكن لمن بدأ يمارس رياضة الشرود الذهنية التي قد تؤدي كما يرى فرويد إلى (الذُهان)، او لمن أدمن على التشتت والشرود في التفكير باعتبارهما أمرين طبيعيين لا خوف منهما، فما زالا في دائرة ونطاق التعامل الطبيعي، رغم أن أعداداً بشرية كثيرة لم تتحمَّل نتائج الأزمة وما حلّ بها وبأسرِها ومعيشتهان وتشردها، وموت أحبائها، وتهديم بيوتها ونهبها، وتخريب صناعتها، وهجرتها وتهجير أبنائها إلى خارج سورية (قسرية أوإرادية)… رغم ذلك ما يزال هناك، وبنسب متباينة، مواطنون في تمام صحوتهم وتوازنهم العقلي وسلامة ذهنهم ونقاوته، وقدرتهم على التفكير السليم وتصويب الأمور، وعلاجها بعقلانية وهدوء.. فهؤلاء، من غير المرتبكين، يعرفون الأسباب والعوامل المكوّنة للأزمة التي أدَّت إلى هذه النتائج.. ومن  ينطلق من مقدمات صحيحة سيصل حتماً إلى نتائج صحيحة، كما تقول الفلسفة وعلم المنطق..!

لقد تفاعل جنون الأسعار والارتفاع المذهل لمستويالمعيشة الذي لم يعد يُطاق ولا يتحمّله المواطن حتى لو كان من الطبقة البرجوازية..! أدَّى ذلك إلى هبوب العواصف التي خرَّبت ما بناه طيلة عمره، وإلى ازدياد التوترات النفسية والأمراض العصبية والنحول الذهني، والتراكمات في الذاكرات التي شكلت عاملاً ضاغطاً على خلايا العقل، وأحدثت (إدمانًاً) للإنسان كمن يُدْمن على احتساءالخمرة ولا يصحو من السَكْرة لا في النهار ولا في الليل..!

كيف لا يصاب الإنسان بالشرود إذا كان يشتري بمئة ليرة لحمة كما قال لي أحد القصابين..؟! وكيف لا يصاب بالشرود والجنون إذا كان هناك من يجمع العظام من محلات القصابين ويسلقها حتى يحافظ على رائحة اللحم ويحتسيها..؟ ولا يموت قهراً إذا كان المواطن في دير الزور يشتري كيلو البصل ب 400 ليرة والسكر ب 1200 ليرة وهكذا.. وما عليك إلاَّ أن تسمع وترى وتغلق أذنيك وتشبك يديك وراء ظهرك وتمشي ولا تنظر إلى الخلف..!

هناك جنون يستشري (كمرض أبو صفار) أو (مرض الكبد) بين الناس.. فمئات الألوف باعوا منازلهم ومحالهم وأغلقوا قلوبهم وآذانهم وركبوا البحر.. فغرق بعضهم ونجا غيرهم.. وآخرون عادوا خائبين بعد أن نهبهم الفاسدون وضحكوا عليهم وسرقوا أموالهم وصنعوا لهم أحلاماً وردية.. عادوا إلى المأوى في قبو أو مدرسة أو بناء على العظم.. فلا بيوت ولا من يحزنون..!

وفي نتائج دراسة أو بحث للشرود قبل الوصول إلى النتائج النهائيةوفقدان العقل والجنون، والنوم على أسرّة (مشافي الأمراض العصبية والنفسية)، وربط المرضى بالجنازير، جاء: أن الإنسان يقضي 50 في المئة من حياته في الشرود ويكون ذهنه خارج إطار العالم الواقعي. فكيف الحال في ظروفنا..؟

المواطن يصبر ويصبر ويعرف أن الحكومة تسعى وتسعى لتخفيف هذه الجوائح عنه قدر الإمكان.. وما عليه إلاَّ أن يزداد صبراً.. ويقول آخرون: ولكن إلى متى؟

العدد 1105 - 01/5/2024