لقطة تذكارية!

وحيدة… توقد ناراً علّها تدفئ جسدها الضامر، عجوز في أواخر العمر، انتحت جانب الطريق ذات مساء عاصف، والبرد هو حديث الناس، بيدين مرتجفتين تتقرب من نارها وتهمس للنار ببضع كلمات تؤنس المكان، لكنّ الحاوية التي ربما شكلت ركناً يوقف أنين الريح ظلت محايدة.

لا يعلم أحد حتى لحظة اشعال النار من هي وما الذي أتى بها إلى هذا المكان بالذات،  وحيدة سوى من بقية دفء تتوسله تمتماتها وأصابعها، التي شاخت كثيراً وبدت كأنها حروف تآكلها الزمن على صفحات الأيام وليس سوى ظلال فقط من تتحرك في بياض الورق، كأن روحها من ظلت تهمي في المكان ببقاياها الآدمية!.

تُرى هل هي خيال هارب من الحكايات التي لفرط ما تشابهت في سردها، ليس بوسع القارئ أن يكتشف الفرق، وربما هي محض شخصية فرّت من خيال مؤلف بعيد لم يستطع الإمساك بها ليرسمها في أوراقه كائنة من لحم ودم، وربما…. وربما…..

لكنّ مثلها كثيرات بعضهنّ من توسط الطريق وأخريات افترشن الحدائق، ذنبهنّ أنهن وحيدات بما يكفي ليبقين محض عبور في ذاكرة الأيام السريعة الذاهبة إلى حتف النسيان، وعلى الأرجح أن ما تلتقطه العين في غفلة من الزمن ليس سوى بقايا صور لمن كانت لهم سيرهم الأخرى المعلنة/ المجهولة، سير العائلات الكبيرة والتي توزعت في المنافي وربما ركبت البحر، لكنها لم تصل ولن تعود، هي واحدة من أخريات توسلنّ ولو قطعة من الحياة، لكنها الحياة التي «ترمي بشررها» من جعلتهم أيتام حتى على موائد النار القليلة رغم عبث البرد وتشظي النهار، وبقية من ليل لا شأن للكهرباء بها لتنير بعض مفاصلها.

وفي سعة النار -القليلة- والتي اشتعلت هي بدورها على مضض بلُقيمات شحيحة من الورق وبقايا ثياب مهترئة، أصبح الدفء مجازاً لكل الحكايات المتواترة على الشفاه والمفارقة لأزمانها، تماماً كما تلك العجوز والتي يبدو أنه لا يراها أحد من أولئك العابرين وبالكاد يسمعون تمتماتها القليلة، لكنهم لا يجيدون الاصغاء، ليعبروا الطريق خفافاً، وهي من يعبرها الزمن متثاقلاً، ما خلا واحداً فقط أوقفه المشهد وامتدت يده إلى جيبه، حسبت أنه سينقدها بالقليل من المال، كعادة من يمنحون عطاياهم لمساكين الطريق المنتحين جانباً لا يلون على شيء فقط من ناشدوا أُعطيات النار ليكون في البدء ثمة دفء، اقترب محدِّقاً بها وكأنها يراها لأول مرة ليتعرفها وبثوانٍ قليلة هيأ الكاميرا في محموله ، ابتعد ليتهيّأ، ضغط ليقبض على لحظة من الزمن لكنها اللحظة التي احتفظت بالعجوز وهي تتقرى نارها المطفأة، وابتعد فرحاً بلقطة تذكارية فيما تقول له العجوز لماذا تصورني… من أنت… وماذا تريد…؟ لا ترسل صورتي لأحد ولا أريد منكم شيئاً، فيما مضى الشاب الغض ليلتحق برفاقه غارقاً في ضحك مجاني، قائلاً لهم صورة جميلة أليس كذلك، إنها مجرد لقطة تذكارية.

كشأن معظم البشر أضحوا لقطات تذكارية لزمن مفتوح على مصراعيه ، لكن حكاياته الأخرى الصغرى وسواها لن تصبح في نهر الزمن كمياه تتجدد، ربما هي توقفت لعلة في الخيال، أو ترُاها تجمدت لعلة في الكلام، وكشأن معظم البشر أيضاً من أصبحوا بقايا صور تتناسل أمام شريط الذاكرة العصية على النسيان، لكنها الخرساء في لحظة الكلام، المستحيلة بما يكفي لأن تتذكر الأسماء والصفات والأماكن وسير العائلات من ظل ومن ذهب ومن كُتبت له الحياة ومن خاتله الموت، كشأن العجوز في لقطتها في الزمان والمكان لتصبح ذاكرة متقطعة السرد، ولا شأن للعابرين بأن يذهبوا في تفاصيلها، التي تكثفت في لحظة فارقة لتكون كناية عن سواها ممن افترشن غير طريق أملاً بنار تدفئ أيامهم وتطفئ عطشهم للحياة التي تنزلق من بين الأصابع ولا تقيم في راحة، توسلت النار كثيراً  لتنظر في مراياها الأخيرة: كقدر يلهو.

العدد 1105 - 01/5/2024