شغف طفولةٌ مطمئنة

لا تغادر طفولتها رغم ثقل الحرب والتهجير وتقلبات الناس والأشياء.

لا تغادر خضرتها رغم اليباس والحرائق وفؤوس الحطابين.

هي شغف الماثلة للصباح.وجهٌ هو قيلولة الوقت بين خيبتين، يستردّ به بعض ألفة السنابل ورحيق الحب.

البلاد أيضاً تتمرّى في عينيها، البلاد قبل أن تجنح إلى شواطىء مالحة، قبل أن تدوس رملها أقدامٌ موحلة ثقيلة.

شغف تملأ كفها الصغيرة ماء وتسقي به يمامات الشام، وترش لها من حنطة يديها ما تيسر، كلما لاح ظل يمامة على النافذة.

مرةً نسي المطر واجباته المكتوبة في لوح الوقت وغاب طويلاً، ماذا تفعل شغف بشجر الحديقة القريبة؟ كانت كلما رأته يائساً كسيراً، وهي عائدة من مدرستها، نفخت فيه من أنفاسها الندية، فيضحك الشجر. ويصبح العطش ذريعة للبقاء.

على الكمان تكتب أصابعها الرقيقة حكاية شقية، تبدأ من هناك، حيث الفرات يهدر بين صحراءين، ويحكي للعابرين قصة هروب الأرمن من موت جماعي حاصرهم ذات حقد، وهروب الأكراد من حقد آخر تناسل في جينات العسكر، وكان ماؤه شاهداً، كان ماؤه حاملاً أميناً للهاربين وللحكاية، وسكانه أيضاً.

الحكاية تركن إلى يقينها، والأصابع تواصل نقرها على أوتار الكمان، فيما نصغي بصمت قداس إلى ما تنقّب عنه الصغيرة التي تطوي عاماً من وردها ولا تكبر، تريد البقاء في طفولة لا تنتهي..

شغف.تقلب ورقة في دفتر العمر كما لو أنها تقرأ في كتابها المدرسي، تبلل أصابعها بريقها وتحفّ أصابعها بالورقة، تتحسّس مساحات البياض فيها، وما أكبرها! ثم ترمي نظرة سريعة على حروف كتبت في زمن الحرب، حروف اغتسلت بماء قلبها فصارت بيضاء كما لو أن الحرب تهرب من وجيب قلبها، كما لو أن صبحاً يسكن بين الأصابع.

كيف تطمئن طفولة إلى نفسها في كل هذا الخراب الذي يزداد عمقاً ومدى؟

كيف تسرح طفلة بأحلامها بعيداً عن أزيز الطائرات وأصوات الانفجارات التي صارت يوميات مملة للسوريين؟

هي تبتسم، فقط تبتسم، كلما مرت مفردة الحرب، وكأنها تعلن بها حربها الصغيرة والجميلة على الحرب وصانعيها وتجارها، كأنها تعلن الحب.

السؤال الذي تعلمنا إياه شغف وابتسامتها هو: هل على السوريين أن يلقّنوا أطفالهم كل ما جرى ويرددونه لهم مراراً حتى يحفظوا الحكاية جيداً (كي لا ننسى)؟ أم أننا يجب أن نساعد هذه الزهرات على نسيان ما جرى لتكون البداية حباً ولو بعد سنين من الحرب؟

هل هذا حلم أهجس به أم أنه يدخل في باب الممكنات؟

شغف، والأسئلة، وحلمٌ دق على باب القلب.هو ما أهديه لهذه الطفلة القصيدة في ميلادها.في ميلاد حلم سوري جميل..

العدد 1105 - 01/5/2024