روحي خاوية مثل «الصوبيا»

بينما الصراع اليومي من أجل المياه مستعر بين الجيران، برز فجأة من النافذة الرأس الأبيض لجارنا (المثقف النظامي) الذي أثارت الضجة أعصابه المتعبة أصلاً، وراح يردد موشحه المعروف: سكوت يا جماعة… بعض الهدوء يا همج… أنا رجل مثقف وأريد جواً مناسباً للإبداع… أنا مثقف نظامي ألا تعرفون هذا؟ طبعاً لم يلتفت إلى كلامه أحد، فقد ملّ الجميع من احتجاجاته التي لا تنتهي، ومع أننا لم نعرف بالضبط ما الذي يعنيه بالمثقف النظامي، ولكن توقعنا أنه يشير الى وظيفته في وزارة الثقافة، أما مأساته التي بات يعرفها أهل الحي فهي أنه يعيش في حي غير نظامي (عشوائي)، وقد زاد عليها طفش زوجته، التي اكتشف بعد زواجه بها أنها غير مثقفة ولا تقيم وزناً للمثقفين!

أنا من جهتي، كلما رأيته هو وأمثاله من المثقفين النظاميين ، أتذكر كلمات رائعة قرأتها للمبدع (أنطون تشيخوف)، هي عبارة عن رسالة الى شقيقه يذكر فيها الصفات التي ينبغي أن تتوفر في المثقف، وذلك بأسلوب هزلي ظريف، اسمعوا بعضها وفكروا قليلاً:

(إنهم يعظمون الشخصية الإنسانية لذا تراهم رحماء ظرفاء مؤدبين لا يتنازعون على التافه من الأمور، وإذا عاشروا الناس لم يعدّوا ذلك تفضلاً منهم، ولا يتألمون لوجود الغرباء في بيوتهم، وهم لا يخصون بعطفهم المتسولين والقطط فحسب، أوفياء مخلصون يرهبون الكذب، وهم لا يتصنعون فلا يختلف مسلكهم في الطريق عن مسلكهم في البيت، يصمتون أكثر مما يتحدثون رأفة بآذان غيرهم من الناس، هم بعيدون عن الغرور السخيف لا يبالون بالعظمة الكاذبة التي ينالونها من وراء معرفة عظيم أو مصافحة سكير، لا يفتخرون بأنهم يدخلون حيث لا يسمح لغيرهم بالدخول، ولا يحتسون الخمر في جميع ساعات النهار والليل، لا يعتدون على ملك غيرهم ويؤدّون ما عليهم من ديون).

هذه بعض فقرات الرسالة التي تطفح بالنقد اللاذع لسلوك من يدّعون الثقافة، والتي تظهر معرفته العميقة بأحوالهم، ومن يقرأ الفقرة الأخيرة يدهش لكون هذه الخصلة عالمية ولا تخصنا فقط، أعني مسألة الاستدانة من الناس، قبل سنوات عاش في حارتنا واحد ممن يسمون أنفسهم شعراء، كان يستأجر غرفة بائسة لدى رجل لا يقدِّر قيمة الثقافة، بل ليست لديه روح شاعرية أبداً، ذاك الشاعر لم يكن يستدين النقود من البقالية واللحام وبائعة الحليب وبائع الدخان فقط، بل كان يطلب المال أحياناً من الأولاد الذين يلعبون بالدحاحل قرب باب بيته، وبالطبع كان يتخلّف دوماً عن دفع أجرة الغرفة، وهذا شيء طبيعي لأننا لم نعرف له عملاً إلا أنه شاعر، وفي بعض الأحيان ينشر مقالات في صحيفة لم يسمع أحد بإسمها، بل حتى شعره لم نعرف منه سوى قصيدة هجاء كتبها تنديداً بصاحب البيت الذي لم يكن يملك روحاً شاعرية ليتفهم مبررات الشاعر حين يقول له كلما جاء مطالباً بالأجرة: (انظر الى هذه الصوفاية، هنا جلس الشاعر العظيم مظفر النواب حين زارني، انظر الى هذه البيجامة لقد ارتداها الماغوط حين بات عندي…) لم يفهم صاحب البيت مغزى كلامه، فردّ عليه مرة: والله لو رأيت عنترة العبسي عندك لطردتك أنت وهو إن لم تدفع فوراً… بعد ذلك انتقل الى غرفة أخرى في نفس الحي، وكان يعيش فيها مع اثنين من طلاب الجامعة، وحين كانوا يسألونه عن قصائده كان يقول: روحي خاوية مثل (صوبيا) بلا مازوت… ومازال على حاله حتى الآن، يتغيّر الطلاب كل سنة ويبقى هو، إنما صار يردد أمامهم: روحي خاوية مثل موبايل غير مشحون… وهكذا فهمنا أنه دخل طور الحداثة الشعرية!

نموذج آخر كنت أظنه قد انقرض منذ زمن، فقد رأيت رجلاً يتردّد باستمرار على مكتب أحد الوزراء، استفسرت، ففهمت من السكرتيرة أنه شاعر يأتي بهدف مقابلة الوزير لإهدائه قصيدة… تخيلوا الرجل يظن نفسه في بلاط هارون الرشيد! الوزير كان رجلاً طيباً فكان يترك للشاعر مبلغاً من المال عند السكرتيرة لتقدمه للشاعر دون أن يفكر طبعاً بقراءة القصيدة.

العدد 1105 - 01/5/2024