جلال الدين الرومي وخمسون منظومة شعرية

يعدّ محمد بن حسين الخطيبي البكري المعروف بجلال الدين الرومي من أكبر شعراء الصوفية، وتعلم على يدي أبيه الملقب ببهاء الدين، وكان من كبار المشايخ الصوفية. رحل إلى بلاد كثيرة طلباً للعلم، والتقى في قونية بأستاذه الصوفي شمس الدين التبريزي، وسمي ديوانه باسم أستاذه (ديوان شمس تبريزي)، كما سمى ديواناً آخر بالمثنوي، وكلمة (المثنوي) تعني ذلك النظام الذي يعرف بالمزدوج في العربية، وهو يعتمد في التقفيه على توحيد القافية بين شطري كل بيت من أبيات المنظومة.

والمثنوي هو أهم كتاب في التصوف الإسلامي، وله كتاب منثور بعنوان (فيه عافية)، وترجمت أشعاره إلى لغات مختلفة، ويحتوي المثنوي على ما يقارب 25 ألف بيت شعر. ويرى ممدوح الزوبي في (معجم الصوفية) أن كتاب (المثنوي) من الكتب الأكثر نفاسة في اللغة الفارسية.

كما تُعرّف مؤلفات السير وليم جونز (لندن 1807م) المثنوي بأنه: (عمل شعري يسمى المثنوي، يعالج موضوعات كثيرة، في ميادين الدّين والتاريخ والأخلاق والسياسة، نظمه جلال الدين، المشهور بالرومي. وهذه المنظومة مثيرة للإعجاب في اللغة الفارسية، وهي تستحق حقاً الإعجاب).

وفي نسخة ثانية من (المثنوي) لريتشارد جونسون آلت فيما بعد إلى ملكية جونز، نقرأ الملاحظات الآتية، مكتوبة في الهامش: (ربما لم يصنّف إنسان كتاباً في غاية الروعة كالمثنوي، وهو يمتلئ بالأشياء الجميلة والأشياء القبيحة على حد سواء في العظمة، مع فحش فاضح وحكايات أخلاقية، مع لطائف شعرية رائعة، ومضمونات صينية صريحة، مع فطنة صبيانية ومُزاحٍ، ممزوجين بنكات باردة، مع سخرية من الأديان الرسمية كلها، ومسحة من ورع متسام، إنه شبيه بريف في إقليم جميل مغطى بأزهار أرجة، وبرائحة البهائم، ولست أعرف كاتباً يمكن المولوي أن يشبَّه به بحق إلا  شكسبير..).

وعلى امتداد القرون الوسطى، وماقبل العصر الحديث، أُلِّفت شروح للمثنوي بالفارسية والعربية والأوردية تُعنى أساساً بدراسة (مثنويّ الرومي) على غرار مؤسسات تدريس الحديث والقرآن.

ولم يكن الرومي شاعراً محترفاً، مثل سعدي في عصره الذي عاش فيه، أو مثل معظم الشعراء الفُرس الذين تعتمد حياتهم على مدح السلاطين أو الحكام الآخرين، فعندما ينظم الشعراء المحترفون الشعر يستعملون فكرهم وخيالهم لإظهار مواهبهم ورصف مبالغات كاذبة من الكلمات. أما عندما ينظم الأولياء الشعر مثل الرومي فإنهم يعبرون عن روح القرآن، ويتحركون وفقاً لمشيئة الحق. والمؤلف فرانكلين د.لويس صاحب كتاب الرومي ماضياً وحاضراً وشرقاً وغرباً ترجمة الأستاذ عيسى علي العاكوب، يقف طويلاً عند قصائد الرومي (الغزليات). فإن المفهوم والصور الخيالية تتحدث على نحو مباشر، وهناك خمسون منظومة شعرية. ونقرأ في الغزلية الأولى من ديوان الرومي.

يا يومَ القيامةِ المفاجئ، ويا رحمة لا منتهى لها

يا ناراً مضطرمة في أجمةِ الفكر

يا أيّها المانحُ الرّوحَ وليس له بدل، يا لذة العِلم والعمل

الباقي كله ذريعة ودَغل، وهذا عِلةٌ وذاك دواء

ومن هذا الدَّغَلِ صرنا حُولاً،

أو حاقدين على من لا ذنب له

ثملين بالحُور العين حيناً، وبالخبز والحساء حيناً آخر

افرك أُذن الرُّوح في خفاءِ، وتجنب الآخرين بالاعتذار

الروح يصرخ (ربِّ خلصني) والله إن هذا لغو أيها الملك!

تبدأ هذه الغزلية بكلمة (القيامة)، ويشير تعبير (الحُور العين) إلى الحسان المشهورات في الجنة، اللاتي سيؤنسن المؤمنين. والصفة اليومية التي يصورها الحساء والخبز في هذه الغزلية والطريقة الساخرة في تصوير الشاعر نفسه يتلقى التقريع بفرك أذن روحه.

وفي الغزلية الثالثة يقول:

أيّها العشقُ المتأججُ كبيت النار، جئت في شكل وصورة وأغرت على قافلة القلب، فأعط لحظة أمان يا فتى.

قال القلب (حُسْنٌ وجهه، ونرجسُ عينيه الساحر.

وسُنْبل حاجبيه، وياقوت شفتيه الحلو).

والزدشتيون لا يعبدون النار، بل يبجّلونها بوصفها رمزاً للقوة الخيرة في الكون. ويقدم الرومي إشارة معقدة إلى المعشوق الإلهي المتخذ صورة بشرية، فجمال هذا الفتى الرباني يستبد بالناظر ويخطف قلبه، كقاطع طريق يمكن أن يهجم ويسلب قافلة تحمل بضاعة من مدينة إلى أخرى، وينشد الراحة والأمان في هذا المشهد.

وفي الغزلية الثالثة عشرة يقول:

منذ أول الصباح أنت ثملُ

وإلا فلماذا اعقدت العِمامة معوجةً

صورة العقل كلها ضيق وضنك

صورة العشق ليست سوى شكر وبهجة

أيها الساقي إن إنصاف الحق في يديك

إذ لم تعبد إلا ذلك الشراب

ويتصور في هذه الغزلية شاباً صبيح الوجه في شعر الغزل الفارسي، يساعد الشاعر في محنه، ويأتي أحياناً بحكمه قديمة. يحرّر الشاعر لكي يبصر آفاقاً جديدة.

إن قارئ ديوان المثنوي لجلال الدين الرومي يلحظ طغيان الفكرة على التعبير، والمعنى على التركيب اللفظي، والمضمون على الأسلوب، كما يلحظ عنفوان التجربة الشعرية الصوفية. فهو يعرف كيف ينظر إلى العالم من نافذة العقيدة، ونلمس ذلك في تعابيره وأفكاره ومضامينه وصوره وأخيلته وقدرته على تطويع تجربته المتدفقة من وراء الوعي والشعور والتعقل وحرارة التجربة وتوهج الانفعال. وقوة الخيال لدى الرومي تجعلنا نستمر في قراءة أشعاره، إذ نجد التناصات الشعرية التي لا تحصى ومصدرها الآيات القرآنية.

(إن هذه النار حجاب للعين يمنع عنها الرؤية

فها هي ذي الرحمة قد أطلت من الخفاء

فتعالي يا أمي وانظري برهان الحق

تعالي وانظري أسرار إبراهيم الذي وجد في النار السرو والياسمين). ويرى الدكتور عماد الدين خليل في دراسته (شيء عن الالتزام في شعر جلال الدين الرومي) أن التوحد المطلق مع الله عند الرومي ومعالجة مسألة القدر والحرية والتأكيد على القيم والأخلاقيات الإسلامية والرؤية الشمولية للوجود والصراع الدائم بين الخير والشر والمحبة الإلهية والإحساس المتفائل بالتجدد والأمل ورفض الظلم والطغيان والاستبداد مؤشرات وخصائص من خصائص شعر الرومي.

(إن اعتقاد الجبر كالنوم بين قطاع الطرق، وهل يجد الأمان طائر لم يكتمل جناحاه؟

فإذا توكلت على الله فتوكل عليه في عملك

ألق البذور ثم توكل على الخالق الجبار).

ونلحظ مئات الصور الكاريكاتورية الساخرة التي ترسمها ريشة الرومي فتنطيع في الذهن والوجدان، ومقابل ذلك نجد البدائل المطلوبة وقدرته على الفاعلية والانطلاق.

(.. كل من بقي  لتراخيه وكسله  بلا شكر ولا صبر، فهو يعلم أنه يسهم في طريق الجبر.

وكل من اتخذ الجبر مذهباً، أمرضه الجبر ولازمه حتى يودعه في قبره.

ومن يكسر قدمه في طريق الاجتهاد يصل إليه براق يمتطيه)

ومن الصور الشعرية الساخرة والتي هي أشبه بالكاريكاتور وتدفع الناس للضحك منه وعليه.

(كانت ذبابة على عود قش فوق بول حمار!

وقد رفعت رأسها كربان سفينة وقالت:

إني أسميها بحراً وسفينة، وهذا ما استغرق فكري فترة من الزمن!).

أسر الرومي خيال الشعراء والأدباء والفنانين في الشرق والغرب، ولذا نجد مؤلفاته تترجم إلى العديد من اللغات العالمية، وحلّق الرومي بأجنحة الروحانية وراء الزمان والمكان إلى عالم الأزل. وكان الرومي (الشاعر الصوفي الأكبر في الشرق، شيخ شيوخ الصوفيين).

إذ تأثر بشعره العديد من الشعراء في العالمين الإسلامي والغربي، ومنهم ناظم حكمت شاعر الشعر الحر الحقيقي الذي كان له أن يكتشف الرومي ويعتمد عليه في الإلهام. وفي الجزء الثاني من أثره مشاهد بشرية يشير إلى شاعر تخييلي يدعى (جلالاً)، وفي قصيدة تدعى (رُباعية) يبدأ ناظم حكمت بإشارة واضحة إلى الرومي، وإلى رباعية بعينها، وهي أفضل رباعية في تقييم ناظم حكمت.

وترجم العالم السوفييتي المتخصص باللغة الفارسية وآدابها رادي فيش، المؤلف سيرة حياة الرومي (الرومي حول العالم) أشعار ناظم حكمت إلى الروسية، وقاد هذا عدد من الملحنين السوفييت، إلى إعداد أعمال موسيقية لأشعاره، وقدم علي يونس كتباً صغيراً من أشعار ناظم حكمت بالإنكليزية منذ عام 1954. كما خصصت مجلة (الشعر الأمريكي) في عام 1974 مقالتها الرئيسية لحكمت. أما الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي فقد نظم قصيدة لحكمت مستعيراً من مجاز الناي النائح في مثنوي الرومي. وهكذا يمكن عدُّ شعر حكمت جزءاً من التاريخ العالمي وحتى الإنكليزي لترجمة آثار الرومي. أما الطريقة الصوفية التي عرفت فيما بعد بالطريقة المولوية فقد أنشأ الرومي طريقته من التقائه بالصوفي شمس الدين التبريزي، الذي كان له أعمق الأثر في نفس جلال الدين الرومي، هذه الطريقة تهيَّأ لها أنصار ومريدون في أصقاع مختلفة من المعمورة، وتأثير قوي تخلل بيئات ثقافية شرقية وغربية.

العدد 1105 - 01/5/2024