مسرح ولكن!

لطالما نظر شكسبير إلى الحياة بوصفها مسرحاً والكل على خشبتها ممثلون، ولعل تلك المأثرة (الشكسبيرية) ما أحالت إلى الكثير من الأقوال التي متحت ليس من إلهام المخيلة الشكسبيرية بل بما فرضته الحياة بوصفها مسرحاً مفتوحاً على ثنائية الملهاة والمأساة، وعلى خشبة طليقة يقف عليها الناس ليتبادلوا أدوراً فائقة التعقيد والبساطة بآن معاً.

قال لي ساخراً: ترى هل فقدنا الفرجة حينما نذهب إلى المسرح على قلة العروض واستثنائيتها، ولعل الممثلون الذين يعتلون خشبته من يتنفسون الحياة، أما خارج المسرح فالناس تمثّل وحسب، وتساءل ماذا يحصل لو أننا ذهبنا لمشاهدة عرض بمناسبة يوم المسرح، وأضاف ساخراً نتفرج على ما ينقصنا، ولعلها فُرجة على ذلك النقص الضروري الذي لا يكتمل.

يعود المسرح أم نعود إليه، وكلانا يتفرج على الآخر وما بيننا حياة تواصل محكياتها على عجل حكاياتها.

خرجتُ إلى الفضاء الآخر -الخشبة- لأرى الأدوار التي لم يرسمها سوى القدر، ثمة من في الشوارع لم يعد كلامهم مجدياً سوى هواتفهم النقالة أصبحت نافذتهم للعالم الآخر، والمفارقة أن من يمكثون في العالم الافتراضي يتنفسون حياة حقيقية، أما خارجه فبالكاد  يتعرفون أنفسهم وغيرهم، إذ تمرّ الوجوه كأوراق مطوية وتنكفئ الكلمات كرجع صدى، في زاوية شارع ثمة من يداعب طفلاً لمجرد أنه ابتسم له، تنهره امرأة: ابتعد فيداك متسختان، ذهل الرجل وهو يقول لها على عجل هي الطفولة وحسب، هل أصبح الحنان مفقوداً؟ فعادت لتنهره إذهب قبل أن أحضر لك زوجي، مضى الرجل لا يلوي على شيء ولسان حاله يقول يالي من طفل لم يعد بوسعه أن يكبر.

وفي الشارع الآخر افترشت نسوةُ الأرضَ في حديقة عارية سوى من أحجارها، يبحثون عن بقايا ربيع في الذاكرة، يتحدثون معاً علّ أحداً يسمعهم، فيما بكاء الأطفال يبدو إيقاعاً آخر للمشهد المتكرر في غير حديقة، والطفل الذي توسّد حجراً ونام في غفلة من النهارات لم يطلب شيئاً، ضم قبضة يده على شيء ما لعله بضعة قروش لا تكفيه يومه أو ساعته، أو لحظته، يمر به الناس خفافاً وثقالاً، وهم يتفرجون على حكاية صغيرة، مجرد حكاية صغيرة لا تعني سوى خيالاتهم العابرة ومخيلتهم الفائضة بالتفاصيل، والناس تفاصيل حينما تمشي بهم الطرق حفاة الأفكار والكلام، والبائع الجوال ذو الصوت الرخيم متأبطاً سبّحاته بألوانها الفيروزية والزرقاء مازال يدلل على (بضاعته) بشيء من الغناء، فهل يرق قلب من يراه علها وسيلة وحسب، والناس يبتكرون وسائلهم ليقبضوا على تلك الجنيات الساحرة (النقود)، ثمة من يحاول اقناعك بأن يرسمك ببضع دقائق معدودات لتذهب صورتك إلى الذكرى علك تحتاجها في أزمنة أخرى، لكن من احترفوا العشق وافترشوا زوايا بعينها لا شأن لهم بزمن يمر مذعوراً لاهثاً وراء دقائقه، هم وحدهم من يقطفون وردة شغفهم ويضحكون مملئ أصواتهم، ربما خروجاً عن نص القدر نوعاً ما وربما لإيهام الحياة بأنها وحدها وحيدة تمضي دون عزاء، أما حامل القهوة من يصر على أن تحتسي قهوته ساخنة (مدللة) أن تقترب أو لا تقترب هو فقط من يراه البعض كمشهد فلكلوري، يذكرهم باقتراب المناسبات وما أكثرها، حينما تكون الضيافة طقساً جميلاً لا ثمن له، أن تشرب لا لتُقنع (القهوجي) بأن قهوته لذيذة، بل لتتذوق المرارة التي يتحدثون لك عنها، وكأنك لست معنياً بها، وربما بين شفتيك ستغدو بطعم آخر رغم مرارتها.

إنها الحكايات التي تتواتر على مرأى من قدر يجيد رسم الأدوار خارج المسرح الآخر، ثمة من يبرع بدوره وثمة من يظل في تهجئته مواظباً ومتعثراً بين حروفه الصغيرة المرتبكة بدورها، لكن دوره من احترفه ليظل على الخشبة بالذات من يشي للقدر بأكثر من دور وربما لأزمنة أخرى أوقاتها أسرع من إشراقاتها.

العدد 1104 - 24/4/2024