وتيرة العدوان تتصاعد… انتفاضة الأقصى تتحدى

 مازالت الانتفاضة مستمرة مع دخولها شهرها الثالث وهي انتفاضة لم تكن مقطوعة الجذور عما سبقها ولم تكن ردة فعل آنية. هي فعل مقاوم أنتجته مجموعة التراكمات والآلام التي تمخضت من ظروف قاهرة بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمحمولة بمضامين وطنية وقومية وإسلامية ثابتة أكدتها سنوات الصراع الطويلة مع الظواهر الاحتلالية الإجلائية في آن معاً.

وقد تعمق هذا الإحساس بالغبن بسبب التسويف والغطرسة الصهيونية التي مارستها والذي جاء وأداً لتاريخ طويل من نضال الشعب الفلسطيني. والمسألة في بعدها الأكثر شمولاً مسألة تحدي حضاري، نكون أو لا نكون، حتى وإن كنا لا نملك مخالب ذرية وأنياباً عابرة للقارات، فإن لم نحصّن أنفسنا بقوة الرفض والمقاومة، فإننا سنحترق ونضيع مع صراع لم يمض عليه وقت طويل لم تكتمل فيه ذخائر قوتنا لنمتحنها في الميدان، ونستكشف من خلالها حدود النصر والهزيمة.

وانتفاضة القدس اليوم طاولت قمم الجبال شموخاً وتألق جبينها المرصع بالكبرياء، ولن ينطفئ في عيونها لهيب الإصرار حتى تحقيق كامل أهدافها في الحرية والعودة وتحرير كامل ترابها من الصهاينة المأزومون بملائكة الانتفاضة وشياطينها والذين ناموا أكثر من نصف قرن على حلم البقاء في فلسطين.

انتفاضة القدس هذه عنيدة ومتمردة على أحلام ملوك إسرائيل ولم ترحل من جغرافيا فلسطين ولم تغادر تاريخها، وهي لن تمنح الصهاينة صكوك الحق بالحياة في أسديروت وغيرها من البؤر الاستيطانية، مستوطنون بقوة السلاح وقوة الوعد الملفق في صفحات العهد القديم.

ستظل انتفاضة القدس تنهض كل يوم باكراً لتصلي الصبح وتتفقد أسلحتها من الحجارة والمقلاع والسكين وتلثم شبابها وفتيانها ثم تطلقهم في شوارعها ليمارسوا رياضتهم اليومية ويطلقوا رشقة من صواريخ حجارتهم القاتلة والمحشوة بالإرادة والعزم نحو عمقهم المحتل ويكتبوا رسائلهم إلى الوطن المهود بتشريعات الكنيست الصهيوني، ويفرجوا عن ترابها الملوث بخيالات المهاجرين من بولونيا ويهود الفلاشا وبضائع تاجر البندقية.

المشهد الانتفاضي الأول: فتى من بدو فلسطين يصارع أحد جنود الاحتلال وينتزع منه بندقيته ويطلق رصاصها نحوهم ويسقط شهيداً.

المشهد الانتفاضي الثاني: أحد ضباط مخابرات السلطة يتمرد على الإغواء وأوامر السلطة، يشهر مسدسه ويصوب رصاصه نحو الصهاينة ويسقط شهيداً.

المشهد الانتفاضي الثالث: حرائر القدس يعتصمن في الحرم الإبراهيمي لمنع الصهاينة من تدنيسه على الجانب الصهيوني.

المشهد العدواني الأول: جنود الصهاينة يحاصرون منازل المنتفضين ويحشون زواياه بالمتفجرات ويزيلون آثاره.

المشهد العدواني الثاني: الكنيست يصدر أحكاماً هستيرية بحق رماة الحجارة بالسجن والتشريد والنفي في محاولة يائسة لفرملة اندفاع الانتفاضة.

المشهد العدواني الثالث: جنود الصهاينة يطلقون رصاص بنادقهم بعشوائية ظاهرة، وقد غشاهم الرعب والخوف.

وقد سقط حتى اللحظة 110 شهداء بينهم 24 طفلاً حملوا حجارتهم بالأكف الغضة ورموا بها ذاك الغاصب المعربد.

لكن الانتفاضة الصامدة ابتلعت حقدهم ولن تذعن لمراسيم التآمر وكشف ظهر آسادها لسياطهم وقد ظنوا أنها ستألف تهشيم ضلوعها واستلاب الضياء من عينها، لكنها عضت طويلاً على جراحاتها تتحدى بعنفوانها المزنر بالكبرياء كامل جيشهم وهي في عيد الحصار. وجوه رجالها تكتنز غضباً لم تعرفه من قبل، ووجوه نسائها تنضح بالحزن لكنها ترشح صبراً ويقيناً وإيماناً ووجوه أطفالها ساهمة لكنها تختزن عيوناً صحت على الحقيقة وعرفت طريقها ولم يعد أحد في الكون يثنيها عنه.

من حقنا بصفتنا شعباً أن نرسم لنفسنا برنامجاً نضالياً لتحقيق أمانينا.. والذين عزفوا عن الانخراط في صفوف الانتفاضة نطالبهم بالوقوف على الحياد مثل أي نظام عربي يرى في الانتفاضة قضية هامشية.. ونطالبهم بحق دماء الـ110 شهداء سقطوا دفاعاً عن الحق الفلسطيني أن يخطو خطوة تاريخية تغسل ماضيهم بوقف التنسيق الأمني مع العدو والكف عن ملاحقة المناضلين من شعبنا.

القدس تكتب اليوم القصة، فتعطي للمحتل دوره، وللأخ المراوغ دوره، وللشقيق الغافي على الخذلان دوره، وللصديق الذي يتحسس ضميره دوره.. أما الانتفاضة فلها دورها لا تؤجره لأحد ولا تساوم عليه أحداً ولا تعطي مفاتيح أسراره لأحد، لأنها الوحيدة الممسكة بعصب التاريخ.. قديماً أنشدوا للقدس ولها ننشد اليوم: وشاح العزة يا قدس وشاحي، وسنظل نستطيب النشيد باسمها واستحضار مكنون وثباتها البديعة ونماذج عطائها ودروس أيامها الفريدة، دروس النضال والجهاد والاستشهاد.

انتفاضة القدس أشهدت الله على عهدها بأن تظل طاهرة وسامقة، وأن يبقى جيدها مقلداً بارودة نظيفة بيّنة الهدف، وأن تواصل جموعها سيرها صوب اكتمال حريتها كاملة. وفي ليلة القبض على خيار السلام يبدأ سقوط الأقنعة كي تظهر الوجوه عارية والأسماء عارية والصفقات فوق الطاولات عارية.

خيار بناء الثقة بين الذئب والحمل، والتصالح بين القاتل والمقتول ورفع الراية البيضاء بعد أن تقاعدوا من القتال قبل أوانه، فعلى أية مذبحة سوف نفاوض اليوم، وعلى أي مصير سوف نساوم نتنياهو الذي ألهانا كل هذا الوقت؟

وهل نتسول حلاً تحت سيف الفيتو الأمريكي الذي لا يرتفع إلا فوق أعناقنا؟ وعلى قادة الصهاينة أن يفهموا أنهم يقاتلون شعباً يشبه عشبة الإنجيل كلما حاولوا اقتلاعها ازدادت نمواً.

العدد 1105 - 01/5/2024