إيليا أبو ماضي البلسم الشافي للجروح

في المجتمعات التي تطولها الحروب والمآسي والمجاعات وتظللها غيوم الحزن والتشاؤم، يغدو سهلاً الحديث عن هموم الناس ومعاناتهم، وما يقاسونه من فقر وإملاق، وما يطولهم من ذل وهوان. وعن النازلة التي ألمت بالأمة فجعلتها مرتعاً للهموم وقلبت أعراسها مآتماً وحولت محاصيلها إلى هشيم تذروه الرياح. وعادة ما يوصف الأدباء الذين يتناولون هذه القضايا بالواقعيين والحريصين على نقل نبض الشارع وإظهار هول الفاجعة التي دفعت بها رياح القدر صوب شواطئ الشعب المسكين.

لكن ما هو أصعب من نكء الجراح وتوسيعها هو السعي نحو زرع الابتسامة في الشفاه التي أثقلها العبوس والتقطيب، والدعوة للتفكير الإيجابي وتحدي الهموم وعدم الانجرار وراء طرق التفكير التي تسمم العقول وتستعبد الناس. وأحد أشهر الأدباء الذين ارتادوا هذا الطريق في النصف الأول من القرن العشرين هو الشاعر إيليا أبو ماضي الذي ينفرد عن سائر أدباء المهجر وأعضاء الرابطة القلمية بفلسفته الخاصة القائمة على التفاؤل وعيش اللحظة والبحث عن السعادة داخل الإنسان لا خارجه. فبينما كان (نبي) جبران خليل جبران يتحدث عن الحب والموت والحرية والزمان قبل مغادرته ل (أورفليس)، وبينما كان (مرداد) ميخائيل نعيمة يقف على قمة المذبح ويغوص في أعماق النفس البشرية ويناقش كلمة الله وكلمة الإنسان، كان إيليا أبو ماضي، الذي كثف تساؤلاته الفلسفية كافة بقصيدة واحدة هي قصيدته المشهورة (الطلاسم)، واقفاً يتأمل أحوال الناس البسطاء وما جرى لهم:

لا أرى إلا وجوهاً كالحاتٍ مكفهره

وخدوداً باهتاتٍ قد كساها الهمُّ صفره

وشفاهاً تحذرُ الضحكَ كأنَّ الضحكَ جمره

ليسَ للقومِ حديثٌ غيرُ شكوى مستمره

ثم كالطبيب الذي ينتهي من التشخيص وينتقل إلى العلاج، يدعو أبو ماضي الناس إلى عدم انتظار قدوم السعادة من الخارج، لأنها ليست أكثر من فكرة يعتنقها الإنسان باختياره ويؤمن بها، فتغير مجرى حياته وحياة المحيطين به، بل ويحمل الناس مسؤولية تعكير حياة الآخرين عن طريق الشكوى والعبوس

أيها الشاكي الليالي إنما الغبطةُ فكره

تلمسُ الغصنَ المعرَّى إنما في الغصنِ نضره

إنَّ من يبكي لهُ حولٌ على الضحكِ وقدره

فتهلَّلْ وترنَّمْ فالفتى العابسُ صخره

و في قصيدته المشهورة (ابتسم) يُجري حواراً افتراضياً مع أحد الناس المنكوبين الفقراء، والذي هجرته حبيبته وسامه الدهر شتى أشكال العذاب. وهو في هذه القصيدة يسد جميع المنافذ على المتشائمين والبؤساء الذين يرون أن السعادة حلم بعيد المنال، فيقارعهم الحجة بالحجة ويرد على تجهمهم بالبسمة:

قالَ: السماءُ كئيبةٌ وتجهَّما

قلتُ: ابتسمْ يكفي التجهُّمُ بالسما

قال: التي كانَتْ سمائي في الهوى

صارَتْ لقلبي بالغرامِ جهنَّما

قلت: ابتسمْ واطربْ فلو قارنْتَها

قضَّيْتَ عمرَكَ كلَّهُ متألمِّا

قال: العِدا حولي علَتْ صيحاتُهم

أَأُسرُّ والأعداءُ حولي في الحمى؟

قلتُ: ابتسمْ لم يطلبوكَ بذمِّهمْ

لو لم تكنْ منهم أجلَّ وأعظما

والشاعر المتفائل والمبتسم يدعو الناس إلى التمتع بالكنوز التي يملكونها، بدلاً من التحسر على ما فاتهم أو ما خسروه. وتلك الكنوز التي يتحدث عنها هي بالدرجة الأولى: الطبيعة الساحرة التي عميت عنها عيون البشر، فاستبدلوا بها بريق النقود وسجون المجتمع الاستهلاكي. لكنها ظلت تظهر مفاتنها لعيون الشاعر الذي يوجه الأنظار إليها للتمتع بجمالها وللتعلم منها، فهو يزيد بذلك ما يملكه الناس من نعم:

كم تشتكي وتقول إنكَ مُعدِمُ

والأرضُ ملكُكَ والسما والأنجمُ

انظرْ فما زالَتْ تطلُّ من الثرى

 صورُ تكادُ لحسنِها تتكلَّمُ

ما بَين أشجارٍ كأنَّ غصونَها

أيدٍ تصفِّقُ تارةً وتُسلّمُ

ومسارحٌ فتنَ النسيمَ جمالُها

فسرى يدندنُ تارةً ويتمتمُ

وفي قصيدة أخرى:

من ذا يكافئُ زهرةً فوّاحةً

أو منْ يُثيبُ البلبلَ المترنّما

يا صاحِ خذْ علمَ المحبةِ عنهما

إني وجدتُ الحبَّ علماً قيِّما

والكنز الآخر الذي يملكه الإنسان هو اللحظة الراهنة التي من شأنه التمتع بها وعيشها بسعادة ورضا، ومن شأنه تركها تموت على يدَيْ المستقبل وهمومه ومشاكله:

أتزورُ روحُكَ جنةً فتفوتُها

كيما تفوتُكَ بالظنونِ جهنمُ؟

يا منْ يحنُّ إلى غدٍ في يومِهِ

 قد بعتَ ما تدري بما لا تعلمُ

قمْ بادرِ اللذاتِ قبلَ فواتِها

ما كلُّ يومٍ مثلُ هذا موسمُ

***

قال : البشاشةُ ليسَ تُسعِدُ كائناً

يأتي إلى الدنيا ويذهبُ مُرغما

قلتُ: ابتسمْ ما دامَ بينَك والردى

شبرٌ فإنَّكَ بعدُ لن تتبسَّما

أما أجمل ما يملك الإنسان فهو الأحبة والأصدقاء فهم النعمة التي تغنيه عن أي شيء آخر:

أحبابَنا ما أجملَ الدنيا بِكُمْ

لا تقبحُ الدنيا وفيها أنتمُ

و في كل قصائده يدعو أبو ماضي الناس لكي يكونوا رسلاً لدعوته، ويطلب من كل شخص بثَّ البسمة والضحكة فيما حوله علَّ السعادة تسري بين الناس وتدب في أوصال المجتمع فتخرجه من تلك الحالة التي آل إليها:

فاعملْ لإسعادِ السوى وهنائهم

إن شئتَ تسعدُ في الحياةِ وتنعما

***

قال: الليالي جرَّعَتْني علقما

قلتُ: ابتسم ولئنْ جرعْتَ العلقما

فلعلَّ غيرُكَ إنْ رآكَ مرنَّماً

طرحَ الكآبةَ جانباً وترنَّما

***

لا تكنْ مراً ولا تجعلْ حياةَ الغيرِ مُرَّه

و مما يميز شعر إيليا أبي ماضي استخدامه للكلام السلس السهل الذي يصل إلى أكبر عدد من المتلقين، ولا يجعل التمتع بقصائده حكراً على النخب التي تتقن فن فك الطلاسم والغوص في أعماق الشعر، بل هو يخاطب كل طبقات الناس ولا يتوانى عن النزول إلى لغة التخاطب اليومية بأسلوبها وطرافتها:

أتُراكَ تكسبُ بالتبرُّمِ درهماً

أم أنْكَ تخسرُ بالبشاشةِ مغنما

***

أيُّها العابسُ لن تُعطى على التقطيبِ أجرهْ

رغم أن الشواهد التي ذكرناها لا تشكل سوى جزء بسيط من مجمل أشعار إيليا أبي ماضي، إلا أن صيتها ذاع بين قراء الشعر بسرعة كبيرة، لما فيها من بهجة وسعادة مقرونة بالبساطة بالطرح وسلاسة بالأسلوب. ومن الواضح أننا اليوم بحاجة إلى العودة لهذه القصائد، لا للخروج من الوضع الراهن وشق حجاب الظلمة وحسب، بل من أجل الدعوة لهذا النوع من الأدب الذي فيه دواء للجروح وترياق لسموم الحرب والفقر. فأغلب الناس يميلون اليوم للكلام عن جروحها وحتى التباهي بها وإظهارها للناس، بدلاً من البحث عن علاج لها، وهي ظاهرة تعجب منها بطل رواية (قلعة) لسان أكسوبيري. وقد يكون من الإنصاف القول إن استحضار إيليا أبي ماضي تم أيضاً بسبب قصيدة له يتغنى فيها بمدينة مونتريال ويصفها فيها ب (روما الصغرى وضرة جلق)، وهو من باب المبالغة بالمديح، فهل يتحقق اليوم كلام أبي ماضي على نحو آخر؟ وهل أصبحت مونتريال وغيرها ضرائر لدمشق لأنها تشاركها بأحبائها وتسلبها إياهم؟ هذا ما لا نتمناه.

العدد 1105 - 01/5/2024