قـراءة في كتاب «التنمية المضيّعة في البلدان العربية» (*)

(1)

الدراسات العربية التي عالجت موضوع ضياع فرص التنمية العربية ليست قليلة، هناك حشد من المؤتمرات والندوات والحلقات الدراسية التي كرست لدراسة مؤشرات حركة التنمية العربية وعواملها وتناقضاتها وسياقاتها ومعوقاتها، سواء في إطارها الكلي- المجموعي، أو في إطارها الجزئي- القطاعي.

ويأتي كتاب (التنمية المضيعة في البلدان العربية) للدكتور مجيد مسعود الصادر بطبعته الأولى في مسلسل الدراسات العربية المعنية بتخليد ظاهرة اعوجاج التنمية العربية وتوثيقها وتحليلها ووهنها، وتأكيد حقيقة الفرص الضائعة لها، ولنا الحق في أن يكون الإحساس بضياع فرص التنمية العربية، مضاعفاً، فعند صدمتي النفط الأولى والثانية من عقد السبعينيات، قفزت فيها أسعار النفط الخام إلى مستويات شاهقة ضاعفت من مستويات الدخول القومية لمجموع الدول العربية المنتجة والمصدرة للنفط، وبمتوالية تكاد تقترب من معادلة المتوالية الهندسية، ولكن لم تحقق العوائد البليونية من الذهب العربي الأسود المصدر تلك القفزة التنموية التاريخية، التي كان يمكن لها، موضوعياً، أن تتحقق، فقد جرى تبديد هذه الطاقات المالية الهائلة بعبثية لا تلغيها مواقف عقلانية هنا، وأخرى مستنيرة هناك، وتنصب منظومة كاملة من العوامل الذاتية والموضوعية الداخلية والخارجية التي كانت تدفع بالتنمية العربية نحو مطبات ومزالق يصعب حصرها.

وحقيقة الأمر، أن تكلفة الفرصة البديلة Opportunity Cost كان باهظاً، فقد كانت هجرة الرساميل العربية المتدفقة بسيول جارفة نحو المؤسسات المالية والاقتصادية لدول المهجر الغربي، تثميراً مضافاً إلى اقتصاديات تلكم الدول الغربية المستوردة والمستثمرة للرساميل العربية من جهة، يقابلها حرمان من فرص التعجيل بتنمية اقتصادية تلكم الدول العربية المصدرة للرساميل تلك، من الجهة الأخرى، فالطريق الذي سلكته الفوائض والودائع العربية، كان هو الطريق الذي يتحمل، مع غيره من العوامل، مسؤولية المأزق الذي أخذت تستشعره التنمية العربية.

ومن الجدير بالذكر أن السوق العربية كانت مختبراً لمعظم نظريات التنمية الاقتصادية الغربية، ولم يبخل الاقتصاد العربي على نفسه سرعة الاندفاع في التقاط هذه النظريات، والتعجيل بتحويلها إلى سياسات تنموية، كان الرهان على نجاحها لا تراوده شكوك.

(2)

الفرضية الأساسية التي تستند إليها المنظومة الفكرية لكتاب (التنمية المضيعة) ليست جديدة، إذ إنها فرضية مازالت تصطخب آذاننا بها، من وفر الضربات والصرخات التي ما انفكت تجلجل في سماءاتنا الفكرية والثقافية، الفرضية التي مفادها باختصار: ضياع التنمية، وكأن عالم التنمية العربية يسير بخطوط متوازية مع عالم الصراع العربي- الإسرائيلي، فكما أن هذا الأخير يمثل سجلاً أو تاريخاً طويلاً من الفرص الضائعة (ابتداء من قرار التقسيم)، فيبدو وكأن عالم التنمية العربية استنساخ أو ترجيع لصدى ذلك العالم الذي لا يجيد غير تكرار ضياعاته، وعندما تعيش في ضياع، فذلك يعني أنك مازلت تبحث عن طريق للخلاص، وعندما تتهاوى طرق الخلاص الواحدة بعد الأخرى، وهي تجتر أزماتها الخانقة، وتتحول أنشودة الخلاص إلى أسطورة للتحرر، فذلك يعني أنك قد فقدت زمن الماضي دون ادخار للمستقبل، وسيبقى استثمارك فيه تعويضاً في رهان ما كان يصعب عليك تعويضه، فالزمن، هو المتغير الوحيد الذي لا يمكن تعويضه في الحياة، ومن أقبح سمات التخلف الاجتماعي والثقافي عبثية الموقف من الزمن، وتوارث الميل إلى إهداره، ببلادة مقرفة، ومع ذلك فإذا كان يمكن للمستقبل أن يحتضن ويستوعب الواقعيين والبراغماتيكيين، فلا مكان فيه للمتشائمين المتأيسيين (!) لأن التفاؤل ببساطة هو الفرضية النفسية الضمنية الأساسية في الرؤية المستقبلية، وهذا التفاؤل هو وحده من يمثل وقود المستقبل الواعد، وطوبى لكل الذين يسكن المستقبل ضمائرهم، وعندما لم يكن كتاب التنمية المضيعة حاسماً بالكامل في تأكيد هويته المستقبلة، بالمعنى الذي نتوق إليه، فانحيازه الكامل إلى فلسفة التخطيط، وآلياته المعنية بصنع المستقبل، كفيله بمنح كتاب (التنمية المضيعة) ما هو جدير به من استحقاقات، ولكن بين أن يكون المستقبل امتداداً للحاضر، وبين أن يكون انقطاعاً عنه، مسافة قد تتجاوز حدود الفلسفة التي اعتمدها كتاب (التنمية المضيعة) لتخطيط المستقبل.

(3)

وفيما عدا المقدمة، يشتمل الكتاب على ثلاثة أقسام وخاتمة، تناول في القسم الأول دور الدولة في إدارة التنمية باستخدام وظيفة التخطيط، وجرى تسليط الضوء على فرص التنمية المضيعة بعرض مكثف لحالة الجزائر، في القسم الثاني، بينما كرس القسم الثالث لمعالجة واستعراض الخصخصة من منظور تنموي في الواقع القطري، واكتفى الكتاب بالإشارة إلى الشرق أوسطية خاتمة له، ولم نعثر في متن الكتاب على توضيح مقنع تضع لهذه الهيكلية التي ما كان لها أن تكون، دون تفسير.

الكتاب من القطع المتوسط، وحدود صفحاته لا تتجاوز 165 صفحة، ويبدو أن التأثر بعصر السرعة كان أحد هواجس الباحث الأساسية.

وحرص الباحث د.مجيد مسعود في القسم الأول على توظيف كل مايعتقده الأكثر إقناعاً لمقولة التخطيط، هذه المقولة التي تعيش الآن أرذل أيام حياتها، بفعل الانهيار الذي عصف بأهم دول التخطيط المركزي في الكتلة السوفيتية، فقد كان للتخطيط المركزي بوق دولي عالي الصخب، يحيط تجربته بالرعاية والدعاية والترويج، وبانهيار المعسكر الدولي لهذا النموذج من التخطيط المركزي، ظهيره الدولي، وباتت حالة تعريه تفضح ما كان يخفيه من عورات، وأضحى المؤمنون الأرثوذوكسيون بمقولة التخطيط، الحريصون دائماً على إبقاء وإذكاء إخلاصهم له، مبتئسين من حالة اليتم التي انقطعوا إليها. وفي ظل هذين المناخين الفكري والنفسي الموحين بهزائم التخطيط، تستحق الإشادة والإكبار بوقفة المؤلف الشجاعة في الدفاع العام عن التخطيط، فالتخطيط، هو آلية إدارية كلية متقدمة، ما إن تحسن استخدامها، حتى تحسن من عطاءاتها إليك، والقصور بالتالي لا ينسحب عليها إن كانت مقتدرة فنياً، بقدر ماينسحب على أولئك الذين تعاملوا معها بدم ثقيل، دون أن يحسنوا استخدامها، ويبقى لعملية التخطيط مفاهيمها التي لن يدركها غير فقهائها، وجاء هذا القسم الأول من الكتاب ليذكرنا ببعض ألف باء هذا الفقه التخطيطي، وهو الذي اشتمل على المحاور التالية:

* مدى الحاجة إلى التخطيطي في إدارة الدولة للتنمية؟

* وجود إمكانيات متاحة ومحتملة للتخطيط.

* عوامل يصعب على المخططي التحكم بها.

* بعض الملامح من تجارب التخطيط في البلدان العربية.

* نحو منهجية مرنة للتخطيط في إطار آلية السوق.

وانطلاقاً من خصوصيات واقع المرحلة التي تجتازها البلدان العربية، يرى الباحث د.مجيد مسعود أن تكون المنهجية المرنة للتخطيط في إطار آلية السوق الموجهة، هي الملائمة لإدارة الدولة للتنمية، وذلك بالاعتماد على السبل المباشرة وغير المباشرة وشبه المباشرة المشروحة في الصفحات 32-،34 ويمكن اختيار ما يناسب التعامل التخطيطي الملزم للقطاع العام، وشبه الملزم للقطاع المشترك، والإرشادي غير الملزم لكل من القطاع الخاص والقطاع التعاوني وذلك في الصفحات 33-34.

ويظهر مؤلف التنمية المضيعة كما هو واضح، حنيناً مكثفاً للقطاع العام، ويبدو كأنه مازال يراهن على كفاءته، لبلدان عالم الجنوب بعامة، والبلدان العربية بخاصة، التي تزدحم مجتمعاتها بالأمراض السيوسيولوجية القروسطوية، وهي الأمراض الاجتماعية المستوطنة لمجتمعات ما قبل الصناعي، ومنها العشارية والقبلية والطائفية والإثنية والمحسوبية وحروب الولاءات التحتية، الأمر الذي غالباً ما يجعل من مؤسسات القطاع العام شكلاً مشوهاً من أشكال الإقطاع الاقتصادي للدولة.

(4)

ومضيفاً (أبو ديوانية بيروقراطية) لاستكمال الوجاهة القبلية في المدينة، أو تعويضاً عن زعامة مشيخة الريف.

وتعود جذور إيديولوجية القطاع العام إلى أولئك الذين يحملون في ضميرهم جرثومة العداء لكل ما هو خاص أو رأسمالي، وأن أصحاب الدعوة إلى نموذج الدولة القائمة على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، هم الأكثر حماسة في الترويج لنموذج دولة القطاع العام، إلا أن الإشكالية الرئيسية لهذا النموذج باعتباره لا يحمل من هذا العام سوى الاسم، فأصل الفشل في إدارة القطاع العام باعتباره قطاع دولة أنه ليس بعام، إذ لا يمكن للقطاع العام إلا أن يكون مترجماً أو انعكاساً للطبيعة الطبقية والإيديولوجية والسياسية للنظام الاقتصادي- الاجتماعي السائد، ويفتقر كل التاريخ السياسي والاقتصادي لتقديم نموذج نقي ومتساوي لدولة القطاع العام، فهذا القطاع العام، بكل نماذجه، يعاني وسيظل، من استمرار الشرخ الصارخ بين هويته العامة المعلنة، وتطبيقاته الجهوية والفئوية والسلطوية المترجمة على أرض الواقع، إن الشروط الموضوعية لصيرورة القطاع العام نموذجاً متطابقاً مع كينونته العامة حقيقة، مازالت حلماً جميلاً، خاصة في تلك المجتمعات التي مازالت تعيش مرحلة التطور الاقتصادي لما قبل نضوج الرأسمالية، وفقط الطوباويون من يحاول ترجمة ذلك الحلم إلى واقع، فيمكنك أن تؤسس شركة هنا، ومؤسسة هناك، تابعة للدولة، ولكن ومهما تضخمت حصتها وأجهزتها، يبقى أمراً لا يعكس ضرورة موضوعية، وكفاءة إدارية، بقدر ما يعكس ورماً يستوطن عقول من لا ينظرون إلى تاريخ الرأسمالية ونفوسهم، إلا بعين واحدة، والحقيقة أنه لا يمكن لقطاع الدولة أن يؤدي دوراً انتقالياً هاماً خاصة عند المراحل الأولى من نشوء الطبقة البرجوازية، وخاصة البرجوازية الصناعية، وتشير التجربة التاريخية لمرحلة الرأسمالية الماركانتيلية، التي امتدت للقرون الثلاثة الأولى من العصر الحديث، إلى أن الملكية الاقتصادية للدولة قد لعبت دور كاسحة الألغام في تمهيد الطريق أمام الانتصار الحاسم لعلاقات الإنتاج الرأسمالية، وتجربة اليابان الأحدث تؤكد ما أكدته تجارب البلدان الرأسمالية المتقدمة، تؤكد الدورين التمهيدي والتاريخي لدولة الرأسمال في بناء الاقتصاد الرأسمالي وتعزيزه، القائم أصلاً على ترشيق دور الدولة الاقتصادي حتى الحد الأقصى، وفقط بهذا المعنى، يمكن لما يسمى بالقطاع العام، أن يحظى بالقبول المشروط.

إن الإشكالية المنهجية لعملية التخطيط تنبع من حالة الارتباط المصيري بين آلية التخطيط المركزي وما يسمى القطاع العام، والتخطيط هو فن وعلم إدارة الاقتصادي الكلي، بينما تعتمده المؤسسات الاقتصادية والخدمية باعتباره نمطاً صالحاً من أنماط إدارة الاقتصاد الجزئي، إلا أن كل سوءات إدارة القطاع العام تنسحب على آليات التخطيط ومنهجيته، وأثر التبشيع الذي حل بصورة التخطيط مع انهيار منظومة دول التخطيط المركزي، يبدو كأن مستقبل التخطيط مرهون بمدى قدرة المفكرين الاقتصاديين وخبراء التخطيط الاقتصادي على تفكيك العلاقة التي كانت عضوية، بين عملية التخطيط وملكية الدولة لوسائل الإنتاج، خاصة في ظل النجاحات المتحققة للتخطيط الإرشادي أو التوجيهي والمؤسسي، الذي سجلته عمليات التخطيط والبرمجة وللمؤسسات الكبيرة في اقتصاديات العالم الرأسمالي المتقدم.

إن المقولة الأيديولوجية التي تنص على أن موضوعية عملية التخطيط تجد مصداقيتها ودلالاتها عبر ملكية الدولة العامة لوسائل الإنتاج، تجعل مستقبل التخطيط مرهوناً بمدى قدرته على التحرر من أسر تلك المقولة، التي مازالت تمسك بتلابيب أذهان العديد من المفكرين الذين ما انفكت قناعاتهم مدمنة عليها، ويبدو أن د.مجيد مسعود من لفيف هؤلاء المفكرين.

هذا القسم الأول من كتاب التنمية المضيعة جاء باختصار ليؤشر ويؤطر فلسفة الباحث الاقتصادية، التي يبدو وأنها فلسفة صامدة تعوم في التيار المعاكس، لتيار اقتصاد السوق الرأسمالي، الذي بات الانتماء إليه اليوم، مفخرة لمن يريد أن يجبر انتصار الرأسمالية التاريخي بمفهوم (فوكوياما)، لنفسه، وإذا كان للباحث الحق في تنظير رؤيته الاقتصادية، فاستخدام هذا الحق قد جاء على حساب بنية الكتاب الكمية، التي ذهبت أكثر من ربع صفحاته إليه، وحرمتنا بالتالي من فكر الباحث الذي كان من الممكن توظيفه في تشخيص الفرص الضائعة من تجارب تنموية عربية أخرى وتحليلها.

إن إصرار الباحث على ما يسميه بالدور الإيجابي للدولة، يمثل حنيناً إلى ماض لن يجد طريقاً للنفاذ في ظل عولمة زاحفة مازالت مستمرة وهي تقضم من جرف الدول وسيادتها، ضمن عملية تاريخية موضوعية معاصرة يصعب لجمها.

وكل من يراهن على وقف ذلك، كمن يراهن على وقف نبضات حركة التقدم الاقتصادي والتكنولوجي، فمن طبيعة عجلات التقدم التكنولوجي أنها تسحق دون إبصار كل من يشرئب بعنقه قاطعاً مسيرتها إلى الأمام.

(*) تأليف الدكتور مجيد مسعود

الناشر: دار المدى- دمشق

العدد 1105 - 01/5/2024