الفساد في السلم جريمة ونزيف وألم… وفي الحرب خيانة عظمى

لن نبالغ إذا قلنا اليوم: إن الفساد، وجني المكاسب الذي مارسته فئات سورية معروفة.. ومجهولة، أوجع جماهير الشعب السوري بالقدر الذي آلمته تداعيات الأزمة السورية العاصفة، والغزو الإرهابي التكفيري، وأدرك المواطن السوري بحسّه الوطني أن ثمة تناغماً بين أعداء الخارج.. والساعين في الداخل إلى إركاع سورية من بوابة إثارة غضب الجماهير الشعبية، فبلد يقاوم الإرهاب.. ويخوض حرباً وطنية ضد تحالف دولي معاد، لايجوز أن يتلاعب بمقدراته حزمةٌ من الفاسدين وأثرياء الحروب.

 في زمن السلم شكل الفساد نزيفاً لخزينة الدولة.. وسبّب ألماً ومعاناة لجماهير الشعب السوري، أما بعد انفجار البركان.. وحلول البندقية بدلاً من الحوار، وبعد الحصار الاقتصادي الظالم، وبدء غزو الإرهاب التكفيري مدعوماً من التحالف الدولي المعادي لسورية، فقد تحوّل الفساد إلى عدو آخر لسورية والسوريين.

إن الحصول على المكاسب بطريقة غير مشروعة ليس ظاهرة جديدة، فهي قديمة قدم انقسام المجتمعات إلى طبقات وفئات اجتماعية، ولا تقتصر على البلدان المتخلفة والنامية، فهي موجودة في جميع الدول. لكن الفساد في الدول الديمقراطية يصطدم بالقوانين الواضحة التي تسنّ في المجالس المنتخبة ديمقراطياً، إذ تتيح لممثلي الشعب وهيئات المجتمع المدني الاطلاع على الملفات المالية والإدارية الخاصة بالشركات والأفراد، ومع ذلك فقد ظهرت إلى العلن فضائح فساد كبيرة تورط فيها سياسيون وشركات كبرى، وقد أظهر الانهيار الكبير في قلعة الرأسمالية العالمية في خريف ،2008 دور الصفقات المصرفية المشبوهة.. والمكاسب التي حصل عليها القادة الكبار للمؤسسات المالية في انفجار هذه الأزمة، ويمكن هنا إيراد الفساد الذي سيطر على شركة (إنرون) عملاق الطاقة الأمريكية في بداية القرن الجديد، إذ أدى إلى إفلاسها، وفقدان 20 ألف موظف وظائفهم، وخسر موظفوها نحو مليار دولار، أما صندوق تقاعدهم فقد بلغت خسائره 3 مليارات دولار، إضافة إلى فقدان 30 ألف موظف في شركة آرثرأندرسون التي دققت حسابات (إنرون) عملهم، وكشف الإفلاس تواطؤ بعض كبار المصارف مع (إنرون) مثل سيتي بانك، ومورغان، وميريل لينش، وأدين في المحكمة مديرو الشركة، وبعض كبار الموظفين في المصارف الكبرى. 

أما في البلدان النامية، فللقضية وجه آخر، إذ يمكن ببساطة شديدة الربط بين عمليات الفساد والأزمات الاقتصادية التي تعانيها هذه الدول. أما عن حجم الفساد في الدول النامية، التي يبلغ عددها خمسين دولة، فقد أظهرت الدراسات التي قامت بها الأمم المتحدة، وهيئات دولية مستقلة، أن المبالغ التي اختلستها القيادات الفاسدة بلغت 1,6 تريليون دولار، وأن 40 مليار دولار ينهبها سنوياً الأشخاص الذين يتقلدون أعلى مستويات الحكم في الدول الأكثر فقراً في العالم، كما يضيع نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي للدول الإفريقية بسبب عمليات الفساد سنوياً.

وتقول منظمة الشفافية العالمية: إن الدول النامية – وفي مقدمتها الصين- خسرت نحو ستة تريليونات دولار على مدى الأعوام العشرة الماضية، بسبب الجريمة والفساد والتهرب الضريبي، بينما لا تزال تدفقات الأموال غير المشروعة تنمو باستمرار. (1)

تعددت الدراسات والآراء حول الفساد وفقاً لما يسوقه كل باحث عن أسبابه ونتائجه وطرق مكافحته، لكن ما يُجمع عليه الباحثون هو الأضرار التي يتسبب بها الفساد للخزينة العامة للدولة المعنية، وما يسببه ذلك من تخفيض لاستثماراتها المنتجة، ولمخصصات الدعم الاجتماعي، وبضمنها التعليم والصحة، وتقليص فرص الفئات الاجتماعية الفقيرة في الحصول على توزيع عادل للثروات، لكن الأهم هو الشعور العام الذي يخلفه الفساد لدى شعوب الدول التي يكتسحها، وهو عدم جدوى القوانين إزاء فئات تخالف هذه القوانين، بل تستغلها للحصول على منافع مادية ومعنوية.وقد وضع بعض الباحثين حلولاً لهذه الآفة التي تضرب خصوصاً اقتصادات الدول النامية، وتضع المصلحين أمام احتمالين لا ثالث لهما، فإما إقامة الإدارة الرشيدة، وهي عملية تستلزم مقدمات تمهد لها، وزمناً ليس بالقصير، وإما استمرار الفساد.

أما أنصار السوق الحر فقرروا أن الفساد يرتبط بعدم سيادة آليات السوق، وبالتدخل الحكومي في العملية الاقتصادية، وحمّلوا قطاع الدولة مسؤولية الفساد!!(2)

تفشت ظاهرة الفساد في سورية خلال العقد الماضي، فتنوعت الروايات.. وتنوع الأبطال الظاهرون في الصورة.. وأولئك الذين يختفون في مراكز الإسناد والدعم، وتفاوتت المبالغ المختلسة، لكن الأضرار التي تسببت بها تلك العمليات، والشعور الذي خلفته بين فئات الشعب، والذي يتدرج بين الإحباط.. والألم والغضب.. والنقمة، هو شعور حقيقي.. واقعي.

تتعدد الآراء في سورية حول الفساد وأسبابه وطرق مكافحته، لكن أبرز تلك الآراء تمحورت حول الأسباب التالية:

1- ارتبط الفساد بالنهج الاقتصادي للدولة الذي أدى منذ ستينيات القرن المنصرم إلى تضخم المؤسسات العامة والاقتصادية، وتنامي دور الحكومات في الحياة الاقتصادية، وهيمنتها على القرار الاقتصادي، من خلال مساهمتها مساهمة فاعلة في عمليات إنتاج السلع وتوزيعها، ويتوصل هؤلاء إلى نتيجة مفادها أن تقليص دور الدولة وانسحابها من دور المنتج.. والتاجر، سيقطع الطريق على استشراء عمليات الفساد.

2-إن عمليات الفساد تعبّر عن قصور التشريعات والقوانين الرادعة، ولا ترتبط بالنهج الاقتصادي للبلاد، بل بالحكومة.. والإدارة الرشيدة لكلا القطاعين العام والخاص، لذلك تكتسب التشريعات التي تنظم الإدارة، وتلك التي تضع العقوبات، أهمية فائقة في تجفيف بؤر الفساد.

3- إن استشراء الفساد ارتبط في سورية خلال العقد الماضي ببروز مفاهيم جديدة.. وفلسفة جديدة جاءت بعد سيطرة اقتصاد السوق وآلياته.. وتحرير الأسعار.. بعد عقود من الاقتصاد الموجه، فانتعشت الوساطات بأشكالها المختلفة، وسيطرت الشطارة و(الفهلوية) والربح السريع، والرغبة في حياة البذخ والثراء بأيسر الطرق وأسهلها.

4-إن غياب التعددية السياسية والاقتصادية، ومؤسسات المجتمع المدني، والمجالس التمثيلية المنتخبة بطريقة ديمقراطية حرة، لعقود طويلة، شكّل بيئة صالحة لنمو الفساد بأشكاله المختلفة.

يذكر السوريون بألم بالغ قبل انفجار أزمتهم الكارثية، صفقات فاسدة.. و(أبطالاً) فاسدين، وشاهدهم على ذلك ما كشفته الصحافة الرسمية آنذاك. لكنهم في كثير من الأحيان يتداولون قصصاً.. وأقاويل لا تبتعد كثيراً عن الواقع، وإن بالغت في حجم الضرر الحاصل، فهذه المؤسسة اختلس المحاسب صندوقها.. وذلك المستشفى استورد أجهزة معطلة، ومخالفة للمواصفات المطلوبة، وتاجر أدخل إلى الأسواق لحوماً لا تصلح حتى طعاماً للكلاب.. ومسؤول حكومي وجد في منزله وسجله العقاري مليارات الليرات والدولارات.. وأطباء يعلقون على جدران عياداتهم شهادات مشكوكاً فيها.. وطلاب ينجحون دون شراء الكتب الجامعية! في الوقت الذي كانت الفئات الاجتماعية المختلفة تعاني فيه مصاعب معيشية واجتماعية تضيّق عليهم سبل الحياة الكريمة، تبدأ من ندرة فرص العمل وتواضع الأجور، ولا تنتهي بمعضلة تأمين السكن اللائق.

بعد انفجار الأزمة السورية، تنوعت مظاهر الفساد أكثر فأكثر، وأصبح مبرراً لدى قسم هام من الناس بذريعة الحاجة (بدنا نعيش)، وتشظى ليشمل فئات(بازغة) جديدة بمناسبة الأزمة ، وذلك بعد تراجع قيمة الأجور الحقيقية وارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات، وانسحاب الحكومة التدريجي من دورها الاجتماعي المتمثل بالدعم الحكومي للفئات الفقيرة والمتوسطة.لقد انضم آلاف المواطنين إلى حلقات الفساد بعد أن كانوا فيما مضى من ضحاياه، وامتدت أيدي هؤلاء إلى شبكة المصالح الحكومية بجميع تخصصاتها، ووضعوا حاجزاً غير مرئي بين المسؤول والمواطن..وفي بعض الأحيان كانوا مع المسؤولين ضمن حلقة فساد واحدة.

الجديد في الفساد الذي استشرى خلال أزمة السوريين هو انعكاسه المباشر والسريع على مصالح المواطنين، إذ تركز على التلاعب بأسعار احتياجاتهم المعيشية والحياتية الأخرى، بدلاً من التركيز على الصفقات الكبرى، والمناقصات والعقود الحكومية، التي تنعكس أيضاً على الأوضاع الاجتماعية للمواطنين ولكن بشكل غير مباشر، والسبب واضح هنا، إذ تراجعت إيرادات الحكومة.. وتقلصت عقودها الخارجية والداخلية الكبيرة، فوجد مقتنصو الفرص في إجازات استيراد السلع الاستهلاكية، والمواد الضرورية الأخرى، واحتكارها، فرصتهم في مراكمة الأرباح، وساعدهم في ذلك ارتفاع غير مبرر في كثير من الأحيان لأسعار القطع الأجنبي ومغامرات المضاربين الذين كانوا نجوم السوق السوداء.

ويقدر بعض الباحثين أن تكلفة إعالة الأسر السورية في فترة الأزمة التي وصل حدها الأدنى إلى 80ألف ليرة سورية، يذهب نحو 30% منها إلى جيوب الفاسدين والمرتشين ومستغلي حالة الحرب.

الحكومة أعلنت أنها تحارب الفساد.. وأن بعض (القطع) الكبيرة متورطة، ويجرى التحقيق معها، لكن الواقع يقول شيئاً آخر!! والأكيد هنا أن الحل السلمي للأزمة السورية سيغير من طبيعة (اللاعبين).. فحاجة البلاد إلى إعادة الإعمار.. والتمويل.. والقروض.. والعقود الكبرى ستفرض عودة الفساد إلى (العناقيد) الكبيرة، لكن الفئات (البازغة) ستبقى.. وستجد وسيلة لتمارس سطوتها على المواطنين السوريين.

الفساد ليس قدراً.. لكنه يحتاج إلى بيئة تشريعية واضحة.. ومكافحة جدية مدعومة من جميع الهيئات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، إن مكافحة الفساد استحقاق وطني ينبغي تحقيقه.. لا بأدوات حكومية فقط-بل أيضاً عن طريق ممثلي الشعب في جميع الهيئات البرلمانية والاجتماعية والمدنية.. يجب إعطاء هذه المكافحة طابعها الشعبي.. الاجتماعي الحر.. الواعي، وإلى أن يتحقق ذلك، سيبقى الفساد يقاسمنا رغيف الخبز.

******

المراجع

1-تقرير منظمة الشفافية العالمية – تشرين الأول 2010.

2- راجع مجلة التمويل والتنمية- تشرين الأول 2006.

العدد 1107 - 22/5/2024