مَن يضمن التنمية المستقلة؟

المارد ضاق بالفانوس، تجاوزت طموحاته الأسواق الوطنية والإقليمية، فجاءت الليبرالية الجديدة في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وأطلقت الرساميل مطيحة بكل الاتفاقيات السابقة التي عُقدت من أجل تثبيت الاستقرار الاقتصادي في أوربا وأمريكا واليابان، وكرّست الثالوث الذي قلب مفهوم الصناعة والتجارة والرفاه الاجتماعي رأساً على عقب (الحرية المطلقة للرأسمال.. تحرير التجارة العالمية.. خصخصة قطاع الدولة)، فراحت المليارات تتنقل بين أسواق العالم بسرعة ضوئية.. وشدّت المعامل الجاهزة رحالها إلى دول الجنوب أو المحيط، وبَسطت الشركات المتعددة الجنسيات سيطرتها المطلقة لا على دول المركز فحسب، بل على الصعيد العالمي، وغزت الشركات العملاقة الأسواق العالمية بمنتجات تصنّع في أمريكا الجنوبية وآسيا وإفريقيا، وهكذا أصبحت تايلاند مركزاً لصناعة الجينز الأمريكي (ليفي شتراوس) وماليزيا مقراً لصناعة (سيمنز) الألمانية للالكترونيات، والبرازيل معقلاً للآليات الثقيلة الأمريكية (كاتربيلار) والأردن مصنعاً إقليمياً لشركة (ال. جي) الكورية للكهربائيات، وعبرت سفن الشحن محيطات العالم وبحاره حاملة تلك المنتجات إلى أقاصي الأرض بعد أن أزيلت جميع الحواجز التعريفية والكمية أمام انسياب البضائع.

(يصنعون السياسة من المال) هكذا وصف الديبلوماسي العتيق (ويليرد ستريت) السياسة الأمريكية خلال القرن الماضي، إنها تقوم على اعتبارات تجارية، وتركّز على حماية المصالح الاقتصادية تحت ستار الحرص على السلام.. والديمقراطية..ومكافحة التطرف، ومنذ ثمانينينيات القرن الماضي حذت الدول الأوربية حذو الولايات المتحدة، وأصبحت مستعدة للدخول في حروب تجارية لمصلحة شركاتها الكبرى واستمرار سيطرتها على قنوات التجارة العالمية والأسواق الدولية، إن الكثير من الشركات المتعددة الجنسية في العالم تعادل بالحجم والقوة المالية دولاً بأسرها، ومصلحتها في الاقتصاد العالمي الجديد الذي صنعته الليبرالية الجديدة تفوق مصالح دولها، وحين تصطدم مصالح الطرفين فإن الأولوية تصب في مصلحة الشركات لا في مصلحة الدول. (1)

كان من الضروري تهيئة المسرح العالمي لتقبل تدفق المليارات.. و غزو المصانع الجاهزة للانتقال من المركز إلى المحيط الواسع، فتفتقت أذهان الإدارة الأمريكية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في منصف ثمانينيات القرن المنصرم، عن برامج التكيف الهيكلي والتثبيت الاقتصادي، التي اصطلح على تسميتها (توافق واشنطن) التي فُرضت على الدول الاشتراكية السابقة، والدول النامية الساعية للاندماج في الاقتصاد العالمي الجديد، والتي ركزت على مجموعة من الإجراءات الكفيلة بإعادة هيكلة اقتصادات هذه الدول وفق اقتصاد السوق الحر، وإلغاء أي أثر لتدخل الحكومات في الحياة الاقتصادية، وبخاصة القطاع العام الاقتصادي، كي تتقبل بعد ذلك قروض الهيئات الدولية، والرساميل المالية الباحثة عن أسواق جديدة، ومصانع الشركات العابرة للقارات بحثاً عن تخفيض تكاليف الانتاج في بلدان الأجور المنخفضة.

لقد تضمنت برامج التثبيت مجموعة من الإجراءات التي قلبت اقتصادات هذه البلدان رأساً على عقب، ويمكن تلخيصها بما يلي:

1 – انضباط المالية العامة بتخفيض عجز الموازنة عن طريق تقليص الإنفاق العام لاسيما الدعــم الاجتماعي، وفرض رسوم على الخدمات العامة التي كانت مجانية، وتطبيق مبدأ استرداد التكلفة، وتحرير أسعار الفائدة، وإلغاء القيود على انتقال الرساميل.

2- حصر الإنفاق العام نحو البنية الأساسية، والتعليم والصحة دون الاستثمار المباشر في عمليات إنتاج السلع والخدمات، والحد من التهرب الضريبي عن طريق تخفيض معدلات الضرائب المباشرة وتوسيع القاعدة الضريبية،وإصلاح نظام الصرف الأجنبي وترك أسعار التعادل للعرض والطلب.

3 – تأمين حقوق الملكية، وطمأنة الرساميل بموجب نص دستوري يمنع مصـادرتها أو تأميمها، وتفكيك القيود الإدارية في تحديد الأسعار ومنح الائتمان، و عدم توجيه القطاع العام وإفساح المجال لقوى السوق لتعتني بهذه المسائل.

4 – تحرير التجارة الخارجية وإلغاء القيود على الصادرات والواردات وتخفيض الرسوم الجمركية وعدم إلزام المستثمرين الأجانب بشراء نسبة معينة من الإنتاج المحلي أو بتصدير نسبة معينة إلى الخارج.

5 – الخصخصة عن طريق بيع المؤسسات الإنتاجية أو الخدمية المملوكة للدولة والمصارف وشركات التأمين العامة، وحصر وتقليص دور الدولة – حكومة صغيرة – بإحالة مشاريع البنية الأساسية إلى القطاع الخاص.  بأسلوب البناء والاستثمار B.O.T ثم منحه للدولة.

6 – تحرير الاستثمار الأجنبي بإلغاء قيود نسب التملك للرساميل الأجنبية في الشركات الوطنية وقيود تحويل الأرباح أو الرأسمال إلى الخارج، و القيود التي تحد من تعاملات الأموال الأجنبية في البورصة. (2)

لقد برهنت الوقائع من خلال النتائج التي حصلت عليها الدول التي طبقت هذا النموذج تعارضاً تاماً بين نقاطه و متطلبات التنمية الشاملة، إن توافق واشنطن يتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص، فمن غير المعقول تحرير التجارة بين دول نامية- لم تتمكن بعد من بناء اقتصادها الوطني و قطاعاته الإنتاجية على أسس تنافسية، بسبب التخلف التقني وضـعف الادخـار والاستثمار- ودول متقدمة تمتلك التقاليد الصناعية الراسخة والقدرة التنافسية والرساميل الداعمة المتحفزة لأنصاف الفرص، فقد أدى تطبيق بنود التوافق في المكسيك إلى كوارث اقتصادية واجتماعية بسبب التحرير السريع للتجارة، واختلال سوق العمل، إذ لم يترافق تحسن الإنتاجية بارتفاع الأجور الحقيقية للعمال، كذلك اتسمت خطتها الصناعية بالضعف نتيجة لتركيز صادراتها على صناعات التجميع البسيطة التي تحتوي على قيمة مضافة منخفضة ومستوى منخفض من المهارات، وحل الخراب بالصناعة الوطنية نتيجة لفتح الاستيراد بلا حدود للصناعات الأمريكية، ورغم حملة الإقراض الهائلة التي قادتها الولايات المتحدة لصالح المكسيك، فقد أفلس 15 ألف مشروع وأصبح 3 ملايين عامل دون عمل، وانخفضت القدرة الشرائية للمواطن المكسيكي إلى الثلث. وبالمقابل، فإن فييتنام التي انتهجت مساراً اقتصادياً مستقلاً، قطعت شوطاً طويلاً في اندماجها بالاقتصاد العالمي، إذ ساعدها تحرير التجارة على تسريع التنمية البشرية، ولكن بسبب انتهاجها سياسة اقتصادية متوازنة تمثلت بتوسيع قاعدة النمو وحرصها على إفادة ملايين المنتجين الصغار منه، والتحرير المتدرج، فقد عملت على تحقيق نمو سريع للناتج الوطني ورفع نسبة صادراتها قبل تحرير تجارتها، وبقيت تعرفتها الجمركية بحدود 15 % وأغلقت البورصة بوجه الرساميل الأجنبية، مما ساعدها على تجنب أزمة أسواق المال الآسيوية.

في سورية عملت السياسات الاقتصادية بين أعوام 2005 و 2010 على تسريع التوجه نحو اقتصاد السوق، فقد فتح المجال أمام التجار ورجال الأعمال والمستثـمرين ليساهموا بنسبة 70 % من الناتج المحلي الإجمالي، و تراجعت مساهمة القطاع العام إلى 30 %،لكن نسب النمو جاءت من القطاعات الريعية كالعقارات والسياحة والمصارف الخاصة، وهُمّشت مصالح الجماهير الشعبية.

وهكذا وجدت البلاد نفسها في خضم الأزمة العميقة التي ضربتها، مجردة من أدوات التأثير في الحياة الاقتصادية، خاصة بعد هروب المستثمرين ورجال الأعمال.

يدور الحديث في سورية اليوم عن مسألة إعادة الإعمار، في حين تتواصل الجهود الخارجية والداخلية لحل الأزمة السورية عبر الطرق السياسية، وكل ما نرجوه أن تتكلل هذه المساعي بالنجاح،فدون الحل السياسي القائم على هزيمة الإرهاب،لن يكون هناك إعمار..ولا انتعاش اقتصادي..ولا معالجة للأوضاع المعيشية والاجتماعية لملايين السوريين، هذه الأوضاع التي وصلت إلى مرحلة من البؤس يصعب تصديقها.

المراجع

1-راجع -السيطرة الصامتة – نورينا هيرتس.

2-راجع د. إبراهيم العيسوي –

    الثلاثاء الاقتصادي 23/5/2006

العدد 1105 - 01/5/2024