كيف نهزم «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» (1)

أشارت الهجمات الأخيرة في الطائرة الروسية (224 ضحية) وفرنسا (121 ضحية تقريباً) وبيروت (43 ضحية) والولايات المتحدة (14 ضحية)، إضافة إلى مايحدث يومياً في سورية والعراق، إلى أن المجتمع الدولي أمام مشكلة آخذة بالانفلات من ضوابطها الجغرافية؛ فإذا كان (تنظيم الدولة) محصوراً فيما سبق ضمن سورية والعراق، فقد أثبتت هذه الهجمات أن الانقلات الجغرافي قد يتحول عن الاستثناء. لقد ولّدت هذه الهجمات تساؤلات هامة حول ما إذا كان ذلك الانفلات تحولاً استراتيجياً قام به (تنظيم الدولة) ناتج عن ترسيخ بنيته العسكرية والمؤسساتية ضمن الجغرافية السورية والعراقية الموجود فيها، أم أنه ليس سوى مجرد نقاط ضعف موجودة في الأصل في الأجهزة الأمنية للغرب، استطاعت عناصر من التنظيم اختراقها. منذ أيام قليلة بينت التحقيقات الفرنسية في هجمات باريس أن ثلاثة مجموعات، مكونة من نحو ثمانية مهاجمين، قامت بالهجوم على ستة مواقع في باريس. منهم ستة من المهاجمين أمضوا وقتاً في الأماكن الخاضعة لتنظيم الدولة في سورية، وقاموا خلال العملية الواسعة في باريس باستخدام أسلحة أوتوماتيكية وأحزمة ناسفة مصنوعة بحرفية عالية، وحرصوا على بقائهم في اتصال فيما بينهم أثناء الهجوم. إن مثل هذا الهجوم المعقد لايمكن أن يجري في ظــل ظروف أمنية خانقة على التنظيم بل على الأرجح في بيئـــــة جغرافية وأمنية مستقرة. وهو ماكان حاضراً في سورية خلال الشهور التي سبقت دخول القوات الجوية الروسية.

من الواضح أن التخطيط لهجوم باريس تطلب إمكانيات عالية ووقتاً طويلاً للتخطيط، واحتاج لموارد لوجستية وبشرية على سوية عالية توافرت عند (تنظيم الدولة). كما أن تكلفة العملية لم تكن بعائق، إذ أشار عدد من المختصين ومن بينهم ماثيو ليفيت من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أن تنفيذ اعتداء في الغرب عموماً لا يتطلب تكلفة مرتفعة. وأن هجمات باريس كلفت نحو 000,10 دولار، وهو مبلغ زهيد بالنسبة إلى ميزانية التنظيم التي قدرت ميزانية الحرب الخاصة به بنحو مليار إلى ملياري دولار عام 2015.

ويأتي تمويل (تنظيم الدولة) عبر مجموعة واسعة من النشاطات الإجرامية، التي يقوم بها في المناطق الخاضعة له في سورية والعراق. منها إدارة عمليّات ابتزاز منظمة، تجارة الرق البشري، نهب الآثار، سرقة المحاصيل أو فرض ضرائب (جزية) عليها، وبيع جوازات سفر المحاربين الأجانب والذين ينوون اللجوء إلى أوربا. كما أنّه يجني نحو 30 مليون دولار أمريكي شهرياً من مبيعات النفط غير الشرعية من حقول النفط السورية، ونحو 10 مليون أخرى من مثيلاتها العراقية.

حالياً هناك انقسام دولي كبير على نهج إدارة الصراع في الأزمة السورية واستراتيجيته ووسائله ككل وليس فقط فيما يتعلق بمحاربة (تنظيم الدولة)، وذلك بين محور غربي-عربي يقيادة أمريكية من جهة، ومحور روسي-صيني-إيراني من جهة أخرى، إنما على صورة ومحتوى مختلفين كلياً، إذ لا يوجد في المحور الروسي-الصيني-الإيراني مركز أو دولة محددة لتقوم بدور (المايسترو الأمريكي) كما في المحور الأول، ولا يوجد حلف أو منظمة دولية أمنية مثل الناتو عنده. على الرغم من ذلك يتمتع المحور المتحالف مع الجيش السوري عبر روسيا والصين بحق الفيتو في أهم منظمة دولية؛ مجلس الأمن، وحق الفيتو يشكل قوة ذاتية بحد ذاته، كما يضم هذا المحور الصين وهي دولة قوية وفعالة اقتصادياً على الصعيد الدولي، وإيران وهي دولة ذات تأثير إقليمي فعال، إذ يصعب على المحور الغربي-العربي أن يتمادى في إدارة الصراع على سورية إلى درجة القدرة الكاملة على فرض تغيرات تطيح بنفوذ هذا المحور المتحالف مع الجيش السوري.

هنا أتت محاربة (تنظيم الدولة) أو محاربة الإرهاب، أحد أهم الأهداف الواضحة والعلنية للتدخل الروسي في سورية، وهي ركيزة أساسية في استراتيجيتهم، وأي تعديل أو تطوير لها مرتبط بهذا الهدف. لكن بعد تأخر الموقف الروسي كثيرا تجاه مكافحة الإرهاب، جاء سريعاً ومفاجئاً لنقاط عدة أهمها: بيانات ميدانية أشارت إلى خطورة الوضع في ريف إدلب، تخوّف جدّي من مجزرة جديدة في ريف اللاذقية الشمالي، سبب إقليمي مرتبط بالدور الإقليمي المتعاظم لتركيا، تقدم الجبهة الفاشية ممثلة في (تنظيم الدولة) في عمق البادية السورية واقترابه من طريق حمص دمشق. محاولة الإدارة الأمريكية استكمال الحلقة الثالثة بعد الأزمة الأوكرانية ثم العقوبات الغربية لتهميش الدور الروسي أو إخراجه كلياً من المتوسط عبر (القوة الناعمة)، باللعب على تناقضات المعارضات السياسية، والتحايل الدبلوماسي في مواجهة (تنظيم الدولة)، واستغلال التراجعات الميدانية للجيش السوري في الابتزاز السياسي، على حساب المصالح العليا الروسية.

إن رؤية الكرملين التمدد المتسارع وشديد الخطر لتنظيم الدولة والمجموعات المشابهة له المتمركزة في شمال غرب سورية، والتي بدأت تضم آلاف (المجاهدين) من أراضي الاتحاد الروسي، مع مؤشرات واضحة باستخدام الإدارة الأمريكية الفاشية الوظيفية لتهديد المصالح الروسية، قد دفع روسيا دفعاً حاسماً إلى التدخل في سورية. يذكّر هذا بالموقف الغربي من ظاهرة الفاشية النازية في حينه، عندما هاجمت الاتحاد السوفييتي وانقلبت على الاتفاق السياسي الذي جرى بينهما بعد تقسيم بولندا. يمكن القول من حيث المبدأ أن الروس قطعوا شوطاً مهمّاً في تحقيق أسباب التدخل شرعياً وقانونياً بطلب الحكومة السورية والرئيس السوري أن يحصل مثل هذا التدخل. أما كيف تتطور العملية الجوية إلى احتمال اشتراك وحدات أخرى وكيف تتطور العملية السياسية نحو القضاء على (تنظيم الدولة)، فهذه قضايا متحركة بحركة ردود الفعل والشروط العامة، وخصوصاً الشرط الميداني.

العدد 1105 - 01/5/2024