حتى ينتصـر الشعب الفلسطيني

 إذا كانت التجربة الفيتنامية قد سطّرت ملحمة العصر، بهزيمتها للإمبريالية الأمريكية، فإن الحديث عن بطولة الشعب الفلسطينية ليست وليدة هذا الجيل.لقد سجل تاريخ النضال الفلسطيني ملحمة متواصلة، بداية من ثورة القدس عام 1920 مروراً بثورة البراق عام ،1929 ثم ثورة القسام عام 1935 ثم الثورة الكبرى عام 1936-1939 وانتهاء بانتفاضة الأقصى التي لا تزال متأججة منذ عام 2000 حتى اليوم. إلا أن مقياس نجاح أي مقاومة هو مدى تحقيقها لأهدافها. لقد فشلت المقاومة الفلسطينية ومعها الدول العربية في تحقيق الهدف الأدنى، وهو إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

وإذا أردنا أن نصحّح مسار النضال ببعديه السياسي والعسكري حتى يمكن تحقيق الحد الأدنى من أهداف الشعب الفلسطيني، فإن علينا تحديد أسباب الفشل، ويمكن أن نوجز هذه الأسباب في أنها عكس الأسباب التي أدت إلى نجاح فيتنام في تحقيق أهدافها تماماً.

أولاً_ توفر قيادة سياسية صادقة:

لم يكن هوشي منه، يمنّي الشعب بالنصر القريب والوعود المعسولة، وإنما كان صادقاً مع شعبه منذ البداية، فقد أخبرهم منذ بداية الحرب أنها قد تستغرق سنوات، وأنه قد تدمر قرى ومدن أخرى (ولكن لاشيء يعدل الحرية والاستقلال، وعندما يحلّ يوم النصر فإن شعبنا سوف يعيد بناء مدننا ويجعلها أكثر جمالاً)! ورغم قناعة هوشي منه، بطول المعركة وثمنها الفادح، فقد كان يحثّ الشعب على الصبر وتماسك الصفوف كشعب موحد: (إن طبيعة الصخرة هي الثبات في مكانها دون أقل حركة، ولكن إذا استجمع عدد من الأشخاص قواهم وأصبحوا كرجل واحد استطاعوا أن يحركوا الصخرة أياً كانت ضخامتها، إن قوتنا عظيمة الدفع إلى أبعد حد، ولن تستطيع العصابة الأمريكية والفيتنامية الجنوبية الخائنة أن تظل في مكانها كالصخرة). ولأن هو شي منه، كان قائداً نظيفاً وبسيطاً في حياته، لم يحرص أبداً على امتلاك مباهج الزعامة، بل كان لا يختلف في أسلوب حياته عن الفرد الفيتنامي العادي، فقد استحوذ على حبهم وثقتهم، فالتفّوا حوله ونفذوا كل توجيهاته، لأنه كان يقوهم بشفافية كاملة ولم يعرف عنه أبداً التورط في عمليات تتسم بالفساد.

أما على الجانب الفلسطينية فإن قيادتها لم تحرص على توحيد صفوفها في منظمة واحدة ذات قيادة واحدة مشتركة تقود كفاح الشعب الفلسطيني ببعديه السياسي والعسكري بل نلمس أن هذه القيادات تشرذمت إلى عدة منظمات وأحزاب وجبهات وحركات.

بينما الحقيقة التاريخية تؤكد وجود قضية بحاجة إلى فعل مباشر تحكمها إرادة سياسية فاعلة يفرضها الاحساس بالمسؤولية الوطنية وقد ترتب على ذلك انعدام الرؤية الصحية لطريق النضال وانعكس ذلك بوضوح تهافت بعض القيادات الفلسطينية على التفاوض مع العدو وأمريكا ولما لم يكن هناك رصيد كفاحي مسلح على الأراضي الفلسطينية يسند المفاوض الفلسطيني مع تفاوضه مع الصهيوني فقد اعتبر العدو المفاوضات مجالاً واسعاً للحصول على المزيد من التنازلات ولأن نفق التنازلات لا نهاية له فقد باتت هذه المفاوضات من وجهة نظر العدو وسيلة مناسبة لتصفية القضية الفلسطينية من مضمونها الشرعي.

إن تصويب الوضع الفلسطيني المأزوم يحتاج إلى حماية سياسية وإلى تشكيل قيادة موحدة وبلورة برنامجها حتى تستطيع تحقيق برنامج كفاحي وفتح الآفاق وآليات تطويرها نحو انتفاضة شعبية شاملة يكون الاستقلال هدفاً رئيسياً لها حيث لا أمن للاستيطان والاحتلال في فلسطين دون الحقوق الشرعية وغير القابلة للتصرف.

إن السلطة في رام الله مطالبة بإلحاح شديد بفك الارتباط الأمني مع العدو وإلغاء الاتفاقيات المذلة بحق الشعب الفلسطيني (أوسلو)، ووقف المفاوضات العبثية مع العدو التي امتدت على مدار 22 عاماً، لأن الشعب الفلسطيني يملك من القوة والإرادة وروح الفداء وعناصر الإصرار ما يرغم الجميع من الأعداء على إعادة حساباتهم السياسية.

ثانياً_ إن القيادة الفلسطينية وضعت نفسها في خدمة الأنظمة العربية المتناحرة، وبالتالي وظفت كل دولة عربية قضية فلسطين لخدمة أهدافها ومصالحها القطرية، مما أوجب على هذه القيادة تورطها في الصراعات العربية- العربية، وكان أبرز مثال على ذلك انحياز القيادات الفلسطينية الأعمى لنظام صدام حسين في غزوه لدولة الكويت عام 1990 فكانت النتيجة أن وضع الفلسطينيون أنفسهم في خانة العداء مع جميع دول الخليج ومعظم الدول العربي التي رفضت هذا العدوان، مما أفقد القضية الكثير من الدعم العربي.

ثالثاً_ محاولة القيادة الفلسطينية بسط سيطرتها الأمنية والسياسية داخل الدول العربية وتكوين دويلات داخل الدولة المضيفة، وهو الأمر الذي رفضته هذه الدول لأنه يعتبر انتهاكاً لسيادتها وتخريباً لأمنها واستقرارها، مما أدى إلى صدامات دامية بينها وبين السلطات الأمنية في هذه الدول، ربما كانت أشرسها أحداث أيلول 1970 في الأردن، ثم تكرر ذلك في لبنان أوائل الحرب الأهلية عام 1975 وأدى إلى غزو صهيوني لها في عام 1982 وخروج الثورة الفلسطينية مرة أخرى من لبنان إلى اليمن وتونس وغيرها من الدول العربية التي فرضت قيوداً شديدة على حركة المقاومة على أراضيها خوفاً من تكرار ما حدث في الأردن ولبنان.

رابعاً_ حالة الفساد المالي الذي ضرب في جنبات المنظمات الفلسطينية التي استحلت أموال الدعم العربي للشعب الفلسطيني، مما أدى إلى حرمان هذا الشعب من الدعم الذي يستحقه، فقد ثبت عدم تعامل المنظمات الفلسطينية مع هذه الأموال بالشفافية المفروضة لأن الكثير من أموال الدعم العربي للقضية الفلسطينية كانت تذهب في غير وجهتها الصحيحة.

وبالمحصلة النهائية فإن هذا النقد غير الجارح نعتبره وسيلة ناضجة لتصحيح مسار القضية الفلسطينية، ونحن لا نكنّ لأحد من هذه الفصائل سوى المحبة والتقدير لدورها الكفاحي، وأعتقد جازماً بأن الكل يعترف بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبت بحق شعبنا الذي يستحق الاحترام، لدوره الفاعل في التضحية ورفضه الواضح لمناخ التهدئة مع العدو الصهيوني الذي يريد الإمعان في إذلاله.

إن الدول العربية تشارك أيضاً في هذا الخطأ السياسي رغم ماتملكه من مقومات القوة المادية والتسليحية والشعبية التي يمكن بتوظيفها الجيد أن تفرض إرداتها السياسية على العدو وتجبره على احترامها، إذا أظهرت الدول العربية شيئاً من الكبرياء القومي والديني في تعاملها مع عدوها الرئيسي الصهيوني وأشعرته بضآلة حجمه رغم ما يملكه من أسلحة نووية، وأن(إسرائيل) ليست أكثر من جزيرة معزولة في وسط بحر واسع يضم أكثر من 300 مليون عربي، يمكن، إذا توحدت كلمتهم، أن يغزوا هذه الجزيرة، لا سيما أن وراءهم أكثر من مليار مسلم يساندونهم في قضيتهم.

العدد 1104 - 24/4/2024