قامات سورية…فخري البارودي..شيخ شباب ورجل سبق عصره

 عمل على أكثر من ساحة، وأبدع في أكثر من ميدان، فكان الوطني والمفكر والموسيقي والشاعر الذي تغنى بحب الوطن بقوله (بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان).

هو فخري البارودي.

في حي القنوات الدمشقي العريق ولد عام 1886 ونشأ في أسرة مترفة، والده محمود بن محمد حسن بن محمد ظاهر الملقب بـ(البارودي) كان واحداً من زعماء دمشق وأعيانها خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر، ختم (البارودي) القرآن الكريم وهو في السادسة من العمر، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة على يد شيخ في الكتّاب، ثم تنقل بين مدارس (العازرية، والريحانية، والياغوشية) التي نال منها الشهادة الابتدائية في الثالثة عشرة من عمره، حصل على الشهادة الإعدادية من (مكتب عنبر) وبعد ذلك التحق بحلقة الشيخ طاهر الجزائري، رئيس الأحرار في القرن التاسع عشر، وهنا بدأت عيناه تتفتحان على القضايا القومية، وقد عمل مع أحد رفاقه على إصدار جريدة ساخرة باللغة العامية سماها (حط بالخرج)، والتحق بالعمل كاتباً بمحكمة الاستئناف، ثم شغلت خاطره فكرة السفر إلى الخارج لمتابعة دراسته العليا فجوبه بمعارضة شديدة من والده، لكنه تسلل خلسة من منزل العائلة واستقل القطار إلى فلسطين وأبحر منها إلى فرنسا، ولما علم والده بالأمر منع عنه كل مساعدة مما اضطره للعودة بعد عام دون أن يحقق حلمه بنيل الشهادة.

تفتحت شخصية البارودي الوطنية ووجد في اندلاع الحرب العالمية الأولى فرصة لدخول مدرسة الضباط الاحتياط والانضمام إلى صفوف العثمانيين لمحاربة الإنكليز، في فلسطين وقع في الأسر في معركة (بئر السبع)، ولما أفرج عنه عاد وتطوع في جيش الثورة العربية ضد الأتراك عام ،1916 وعُيّن ضابطاً للأمر تحت قيادة الملك (فيصل الأول) بعد دخوله لدمشق وإعلان قيام الحكومة العربية فيها، لكن الأمر لم يدم طويلاً، إذ ما لبثت سورية أن وقعت تحت الاحتلال الفرنسي، ووجد البارودي نفسه في خضم الثورة الوطنية وفي طليعة المقاومين الذين اعتقلوا في قلعة دمشق حيث أمضى شهوراً اضطرت بعدها سلطات الاحتلال للإفراج عنه تحت الضغط الشعبي، خرج البارودي من السجن ليجد نيران الثورة الوطنية مندلعة في عموم البلاد، وإثر رضوخ الفرنسيين لمطالب الثوار انتُخب مجلس تأسيسي لم يعمّر طويلاً، وهنا تحول البارودي إلى الصحافة فأشرع قلمه لبث روح التمرد في نفوس أبناء البلاد والمطالبة بانتخابات حرة، ومن جديد رضخ المحتلون وانعقد مجلس نيابي جديد ،1932 وكان البارودي في عداد أعضائه، وقد انتخب محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية السورية.

لم يهدأ نشاطه بعد تعطيل المجلس، بل عمد إلى افتتاح مكتب لنشر الوعي الوطني أسماه (مكتب البارودي لخدمة القوميين العرب) انضم إليه كبار الكتلة الوطنية وأصدر ميثاق الأمة المتضمن حق الشعب المشروع في الوحدة والاستقلال، لكن ما هي إلا أيام حتى أغلق المكتب، وألقي القبض على الزعماء والأحرار، وبعد سنتين عاد إلى الوطن ليؤدي واجبه نائباً عدة مرات، ثم متطوعاً في الجيش الوطني عام ،1945 وصار مسؤولاً عن المقاومة الشعبية ضد الاحتلال، وفي الستين من عمره استقال من النيابة تاركاً المجال لجيل الشباب.

لكن البارودي لم يعتزل المجتمع والحياة، بل انصرف بحماس لمشاريعه وهواياته ومؤلفاته حتى اللحظة الأخيرة من عمره، فكان مفكراً مبدعاً وشاعراً تميّز شعره بالبساطة والوضوح والعفوية في التصوير ودقة الوصف، و تنوعت أغراضه الشعرية بين الشعر الوطني والغزل والوصف والرثاء، يعتبر ديوانه الأول (تاريخ يتكلم) سجل حافل للأحداث السياسية والتاريخية واليومية لسورية وهو يعد بحق تاريخاً عاماً للشعب في تلك الحقبة من الزمن.

دعا إلى تعليم الناشئة وفتح المدارس لنهل العلوم الحديثة التي تنهض بالبلاد، فقال:

معاول الجهل قد هدّت مبانينا

وأصبح العلم لامنّا ولافينا

فلا حياة لنا تُعلي مكانتنا

إلا بعلم نروّيه ويروينا

تصدى البارودي للمستعمر بكل ما ملك من عزيمة وإصرار، ونذر نفسه وفكره لمقارعة الأجنبي الدخيل وكرس شعره ونثره إلى الدعوة للوحدة الشاملة، وقد دوت صرخته:

بلاد العرب أوطاني

من الشام لبغدان

ومن نجد إلى يمن

إلى مصر فتطوان

ولم يكتف بالشعر والكتابة بل أسس فرقة (القمصان الحديدية للمقاومة الشعبية) وتطوع بالدرك وأسس مشروع الفرنك الذي تصرف محصلته على الدعاية للقضية العربية وتسليح الشعب لمقاومة الاحتلال، وأنشأ (المكتب العربي للدعاية والنشر) لإذكاء روح الوطنية والدعاية للقضية العربية، ودعا لمقاطعة المنتجات الأجنبية بكل أنواعها وبدأ بنفسه فقطع عهداً قال فيه:

(أعاهد الله والشرف على ألا أصرف قرشاً في حاجة صادرة عن بلاد أجنبية ما دام منها في وطني العربي الكبير).

تميزت شخصية البارودي بروح الدعابة والسخرية والمزاح وتدبير المقالب وهي الصفات التي قرّبته من الناس وحببتهم به.

ولايمكن لأي حديث عن الموسيقا والغناء في سورية أن يكتمل دون أن نذكر الزعيم الوطني فخري البارودي الذي كان أحد الدعائم الأساسية في النهضة التي شهدتها دمشق على صعيد الموسيقا والغناء في الخمسينيات من القرن العشرين، فقد قام مع نخبة من الموسيقيين بتأسيس (النادي الموسيقي الشرقي) بدمشق عام ،1928 وبسبب نشاطاته المعادية لها قامت سلطات الاحتلال الفرنسي بإغلاقه بعد عامين، واستطاع عام 1947 انتزاع موافقة المجلس النيابي لتأسيس معهد موسيقي تولى إدارته في العامين الأوليين، لكن المعهد أغلق وعاود جهوده لافتتاحه ثانية 1950وتابع المعهد نشاطه إلى عام 1959 واستطاع أن يقدم للحركة الموسيقية فنانين كباراً أمثال عدنان أبو الشامات، وعبد السلام سفر، وزهير منيني وغيرهم.

كان مفتوناً برقص السماح والموشحات، وعام 1936 دعا عمر البطش إلى دمشق ليعلّم طالبات (مدرسة دوحة الأدب) رقص السماح، وعندما بدأت إذاعة دمشق إرسالها عام 1947 قام البارودي بافتتاح معهد موسيقي تابع لها، أما الوجه الآخر لمساهمة البارودي في الحركة الغنائية فتمثل بوضعه كلمات وأشعاراً للكثير من الأغنيات والأناشيد الوطنية، ومن الموشحات التي كتب كلماتها (غزال كلما ألقاه) وموشح (يمر عجباً ويمشي)، ومن الأغنيات الشعبية (ع الغوطة يالله نروح) وكلمات أغنية ناقدة عنوانها (مهلك ياشوفير) ومن أشهر أناشيده (بلاد العرب أوطاني).

رحل فخري البارودي إلى العالم الآخر في أيار ،1966 بعد عمر حافل بالحركة الخيرة والنشاط الفعال.

 

العدد 1107 - 22/5/2024