جيمس جويس.. التقنيات والأساليب الأدبية في رواية »عوليس«

 

في مدينة دوبلن، من أسرة برجوازية كاثوليكية، ولد جيمس جويس عام 1882. إن تاريخ ولادته ومكانها، وكذلك الدين الذي يمارسه والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، عناصر هامة، وكونه كاثوليكياً في إيرلندا في نهاية القرن التاسع عشر يعني أنه يمثل جزءاً من قوم انتزعت منهم مكانتهم، في مجتمع استعماري يعيش منذ أمد بعيد تحت حكم بريطانيا وبطشها، والانتماء إلى البرجوازية في إيرلندا جعل جويس يستتبع أيضاً النموذج ذاته من النبذ.

إن رواية عوليس رواية عظيمة تأخذ بالمنحى الواقعي، وتعيد وصف جميع حركات ستيفن ديدالوس والبطل ليوبولد بلو بمدينة دبلن في 17 حزيران عام ،1904 حيث يختبر جويس شتى التقنيات والأساليب الإنشائية. فغدا أول من أستخدم على نحو منتظم الحوار الفردي الجواني في الرواية الحديثة، وقد تلاعب جويس باللغة والأساليب الأدبية، فالنص مقتبس من الميثولوجيا الكلاسيكية : أوديسة هوميروس. ورواية عوليس، حسب طريقتها الموسوعية، تعد عملاً إيرلندياً بصورة عنيفة، فهذا الأثر الأدبي يظل بمعظمه على غرار الماضي الإيرلندي الذي يبرز مجدداً في الأفكار والمحادثات والتجارب لدى شتى الشخصيات طوال النهار. وتتسم هذه الرواية بإدراك واع للثقافة الأوربية والتقاليد، إن بطل الرواية إنسان من منبت يهودي مجريّ يمنحنا صورته، هو، كرجل إيرلندي، وبما أنها ليست صورة سليل من عرق البلد، فغالباً ما تلبث مضحكة مليئة بالخبرة والإرشاد.

جيمس جويس الكاتب الروائي الأيرلندي، الذي تحولت رواياته الأربع إلى/ نموذج فريد لكل نزعات التجديد الأدبي في القرن العشرين، لا في مجال الإبداع فحسب، بل في المجالات المختلفة للدراسات النقدية. ورواية (عوليس) كانت أول الأعمال الكبرى لجويس، التي غير بها مسار مفهوم الإبداع الأدبي وعلم النقد الحديث. أدت رواية (عوليس) التي لم يكن طبعها ممكناً إلا في باريس إلى قيام شغب عنيف شمل العالم بأسره، كان جويس كليل البصر، مفطوراً بموهبة الموسيقا، وحينما أصدر رواية عوليس منعت على الفور وحظرت في كل مكان، باستثناء باريس، فقد أكدت هذه الرواية، بالنسبة للبرجوازية، التعادل بين الفن والقذارة، ولم يكن هناك ناشر بريطاني أو أمريكي على استعداد للمخاطرة بدخول السجن إذا (جمع) كلمات النص المحرم، فكان لا بد من تقديمها لناشر في ديجون لا يعرف الإنجليزية، لكي يطبعها.

أخذ جويس يوماً واحداً من أيام دبلن 16 حزيران (يونيه) 1904 وراح يسجل، تسجيلاً كلياً لا رقيب عليه، أفكار ثلاثة أشخاص، ومشاعرهم، وأفعالهم، لا يمثلون أهل دبلن تمثيلاً كاملاً حقيقياً.

ليوبولد بلوم، مصمم الإعلانات اليهودي المجري الأصل، يتناول طعام إفطاره، ثم يدخل المرحاض ويستريح بسبب جرعة المادة المسهلة التي كان قد تناولها، فخلصته من إمساك الأيام السابقة. وعلى الشاطئ، في وقت لاحق من اليوم، يستثيره جنسياً منظر فتاة يطير الهواء ذيل (جونلتها)، بينما تطلق الألعاب النارية في سوق ميروس القريب أصواتاً لطيفة وفرقعات بسيطة، يجلد هو نفسه حتى الاستمناء. وقرب نهاية الكتاب، تحيض زوجته، مولي بلوم…

جويس يكتب صورة للحياة كما رآها في أمانة. ولم يُجْده هذا نفعاً، ذلك أن المتزمتين من كل نوع واتجاه، لم يرق لهم ما وصفوه بالغلظة وقلة الذوق، كما أنهم لم يسعدوا أيضاً بتمجيد جويس. ذلك التمجيد الكوميدي – الملحمي، للفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة، لقد عدّ الشيوعيون رواية (عوليس) كتاباً رجعياً، فأحزن ذلك جويس وإصابه بالكآبة، وقال: (ليس هناك مخلوق في أي من كتبي تزيد قيمته على مئة من الجنيهات، لكن الاتهام بالرجعية، وجه أيضاً إلى قصيدة إليوت (الأرض الخراب) التي ظهرت في العام نفسه الذي صدرت فيه (عوليس).

فالرواية (هكذا قالوا) ينبغي أن تكون (قراءة مريحة)، وليست (عوليس) قراءة مريحة، إن جويس يستعرض أفانين مرعبة من الحيل باللغة الإنجليزية، إنه يفصل – مثلما يفصل صانع الجبن بين خثار اللبن ومائه، بين مافي مكونات اللغة الأصلية من عناصر لاتينية، ويحيل أحد فصول روايته إلى مراجع في عالم البلاغة، وهو يكتب فصلاً آخر بحيث يصبح كما لو كان مقطوعة موسيقية، صوتية، صارمة الالتزام بالأصول المرعية للكتابة، ولا يستخدم في الفصل الأخير أية علامات ترقيم، فإذا لم يستعرض واحدة من تلك الحيل المتعبة، فإنه يقدم مساحات ممتدة من التفكير (الخام) والأحاسيس على حالتها البكر، في شكل المونولوج الداخلي، الذي يمثل لديه أسلوباً فنياً عرف باسم (تيار الوعي)

في البداية، أثار جويس غضب الناس، لأنه كان يضع أسلوبه النثري في طريق السرد القصصي لكي يعترض هذا السرد ويقطعه، وأما الآن، فإننا أكثر ميلاً لأن نستمتع بالطريقة التي مجّد بها الناس العاديين، فرفعهم إلى مستوى الأبطال الملحميين من خلال الأسطورة والرمز، حتى ولو أدى هذا التمجيد إلى دفع أولئك العاديين من الناس فوق منصة مسرح للكوميديا الموسيقية والاستعراضات الضاحكة، وجعلهم يتصرفون بشكل يبعث على التفكه بهم.

 إن عوليس هومير الحقيقي، يواجه الصخرة الهائلة التي يقذفه بها عملاق ذو عين واحدة يأكل البشر، أما (بلوم) وهو عوليس الجديد فيواجه هجوم متعصب أيرلندي سكران لا يستطيع أن يبصر ما أمامه في خط مستقيم، فيعجز عن إصابة بلوم بصندوق صغير من الصفيح. إن بلوم، الذي نراه يهودياً مسكيناً موضعاً للسخرية كديوث غير مخدوع، يصبح في النهاية ملكاً في إيثاكا(كيوليسز الحقيقي الملحمي) لاالذي يقع في المنزل رقم (7) في شارع إنكليزي.

 وفي ذكرى مئة عام على مولد جيمس جويس، يتوجه الدكتور طه، محمود طه مترجم نص عوليس، إلى القارئ العربي مشيراً إلى هذا العمل، قائلاً : هذه ليست قصة أو رواية أو ملحمة أو مسرحية أو قصيدة أو أغنية، هذا عالم بأكمله، تراث أمة، تاريخ شعب، ذخيرة ضخمة من الأغاني الشعبية والألحان، وهذا النص ساحته تزخر بصراعات المدارس الأدبية، ومناورات السياسيين، ومحاورات رجال الدين، ومتاهات الفلاسفة، ويجد القارئ فيها المرح والفكاهة، والحزن والكآبة، والفقر والمعاناة، وفيها الأدب والجغرافيا والتاريخ والفلسفة والاجتماع والعلم والمسرح والتمثيل، والإعلان والإعلام واللغة والرسم والنحت والأكل والشرب، وفيها شوارع دبلن بأسمائها والبارات والحانات والفنادق، وفيها سباق المراهنات في سباق الخيل ولغة الأزهار وطوابع البريد، وفيها كل الوظائف : أساتذة الجامعة والصحافيون والأدباء، المومسات والعاهرات، وبيوت العبادة وبيوت الرذيلة، فيها الفانتازيا والواقع والحلم والحقيقة.

ليس لعوليس أسلوب واحد، بل عدة أساليب لغوية، فقد تمكن صاحبها من ناصية اللغة فخرج بأسلوب فريد، الأسلوب الجويسي المتفرد، تعلم منه جيل كبير من الكتاب في العالم الغربي كله حتى وقتنا هذا وكان له الكلمة المسموعة في الأدب والفن والمسرح والسينما.

كان جويس رائد عصره، ويقول بطل القصة إنه تعلم في جامعة الحياة، والرواية جامعة يعلمنا جويس كيف نقرؤه، فنتابع بطله ونسبح معه في تيار وعيه لصفحات، ثم فجأة نراه يسأل نفسه وهو في الطريق، أين وضعت قبعتي عندما عدت للمنزل في الصباح، من عند الجزار؟ ولا يعطينا الجواب ونعود لهذا الوقت لهذه الصفحة إلى الخلف في الزمان والمكان. وكانت هواية جويس المفضلة هي قراءة المعاجم وخاصة معجم سكيت في تأثيل الكلمات، إضافة إلى إجادة جويس لعدّة لغات منها الفرنسية والألمانية، الإيطالية واليونانية، واللاتينية.

العدد 1105 - 01/5/2024