وليم فوكنر من «الصخب والعنف» إلى «أبشالوم! أبشالوم»

ولد وليم فوكنر في نيو الباني، ميسيسبي عام 1897 لعائلة كانت قد لعبت دوراً بارزاً في تاريخ الجنوب الأميركي، وقد زودت حياة العائلة والتزامها الصارم بالمكانة الاجتماعية فوكنر بمادة غنية لرواياته، وبعد أن رفضه الجيش الأميركي لأنه كان أقصر من المطلوب، التحق بالقوات الجوية الكندية، إلا أن الحرب انتهت وهو في مرحلة التدريب، فعاد إلى أكسفور والتحق بجامعة ميسيسبي. نشر كتابه الأول، مجموعة شعرية بعنوان (تمثال فون الرخامي) عام 1924 ثم كتب روايته الأولى (آخر الجنود في نيو أورلينز) عام 1925 ونشرها في العام الثاني، تركز الرواية على عودة جندي أعيق جسدياً ونفسياً في الحرب العالمية الأولى، وكيف أن مرضه وموته غيّرا حياة عائلته وأصدقائه. ورواية فوكنر الثانية (البعوض) صدرت عام ،1927 موضوعها أن الأفعال أهم من الأقوال، وأن العاملين أهم من المتكلمين، وهي رواية ساخرة، وقد قوبلت(البعوض) بترحاب يقل عما قوبلت به (آخر الجنود…). أما الرواية التي ساعدت فوكنر على إيجاد نفسه ككاتب فهي(سرتوريس) فقد اكتشف بتأليفها (أن الكتابة أمر رائع جداً) إنها تمكّنك من أن تجعل أناساً يقفون على أقدامهم ويلقون على الأرض ظلالاً طويلة.

ثم كتب رواية(الحرم) وجاءته بشهرة سيئة، أما المدح النقدي فلم يجئه إلا متلكئاً. وقد أدرك الفرنسيون قوة فوكنر أسرع مما أدركها الامريكيون وعلى نطاق واسع، فكتب أندريه ما لرو مقدمة (للحرم) وكتب سارتر مقالاً نقدياً طويلاً عن فوكنر، ثم بدأت الدراسات تتوارد عام ،1946 واليوم تكاد لا ترى مجلة دراسية أو نقدية لم تنشر المقال تلو المقال عنه، وفي عام 1950 منح جائزة نوبل، فذهب بصحبة ابنته إلى السويد، وألقى هناك خطاباً ذاع صيته.

يقول روبرت بن ورن في مقال له: (لقد كتب وليم فوكنر تسعة عشر كتاباً ليس ما يضاهيها في بلدنا وعصرنا هذا من حيث الاتساع، والقوة والعمق الفلسفي، وأصالة الأسلوب، وتنوع الشخصيات والفكاهة، والتوتر المأسوي. فالتوتر المأسوي يتحول أحياناً إلى مجرد تهويل عاطفي، والبراعة الفنية تتحول إلى مجرد تعقيد، والعمق الفلسفي يتحول إلى مجرد فوضى ذهنية، فلنسلم بذلك كله، ففوكنر كاتب متفاوت، ولكن هذا التفاوت نفسه إن هو إلا دليل على حيويته، واستعداده للمجازفة ومحاولة خلق التأثيرات الجديدة، واستقصائه المستمر مكانات المادة والأسلوب). وقال فوكنر في إحدى المناسبات إنه (وضع كل جهده وقوته) في كتابة (الصخب والعنف). والعديد من المعجبين به يعتقدون أنها أحسن رواياته وأنها إحدى الروايات العظيمة التي كتبت في القرن العشرين. لا ريب أنها تدل على براعة هائلة، وعلى عبقرية فذة، غير أن النقاد في خلاف حول الشيء الذي حاول فوكنر أن يقوله فيها

هذه الرواية تلزم القارئ وتحثه على الصبر وتعوّد العين والعقل على خصائص بنائها وتكنيكها، وتجعل القارئ يستغرق في تلك العملية الشديدة الإثارة وهي عملية الخلق الخيالي.

(الصخب والعنف) مثل رواية (أبشالوم! أبشالوم!) تحكي عن رابطة الدم والوراثة، وعن علاقات عائلية بالغة الاحتداد. إنها حكاية بيت عظيم في حالة انهيار.

لقد قال فوكنر إن (الصخب والعنف) قصة براءة مفقودة، وهي أيضاً قصة عائلة انكفأت على نفسها لتعيش سحابة يومها في الماضي، ويمكن أيضاً تأويلها على أنها قصة حب انتهى بين أفراد أسرة ما، قصة فقدان احترام الذات والاحترام المتبادل. إنها قصة (جنوبية) كما أنها قصة تنتمي إلى هذا القرن. وكقصة انهيار أسرة، فإنها شبيهة بعدد من أقدم القصص في الآداب الغربية.

كان فوكنر يحس بأن للعقل الباطن منطقاً غريباً غامضاً، وأن هناك صراعاً لا شعورياً في نفوسنا، وعبر عن ذلك أصدق تعبير ولا سيما في (الصخب والعنف)، إذ يصف لنا بنجي المعتوه وهو يطارد بنتاً في طريقها إلى المدرسة، يقول بنجي: (كنت أحاول أن أقول – ثم أمسكت بها – محاولاً أن أقول – ثم صرخت – ثم كنت أحاول أن أقول – وحاولت – ثم بدأت الأشباح الساطعة تتوقف، وحاولت أن أبتعد – ثم حاولت أن أبعدها عن وجهي، ولكن الأشباح الساطعة كانت ذاهبة…)

في هذه القصة نجد وحدة الحدث وحبكة الرواية، كما نجد تناسقاً بين الشكل والأسلوب والموسيقا. ونلمس العاطفة التي بعثها بينجي بفوكنر قوله: الإحساس الوحيد الذي أكنه لبينجي هو الحزن والعطف على كل البشرية، لا يمكنك أن تشعر بشيء تجاهه لأنه لا يشعر بشيء، الشيء الوحيد الذي أشعره أنا تجاهه بشكل شخصي هو ما إذا كان يبدو حقيقياً كما خلقته. ولم يكن بينجي عقلانياً بما يكفي ليكون أنانياً، كان حيواناً أدرك العطف والحب رغم أنه لم يكن بوسعه تسميتها. وعندما أصبح بنجي يزعج طالبات المدرسة قاموا بخصيه، وبينما يمثل بنجي الموضوعية والحس الخالصين فإن كونتن يتجه إلى التجريد، يصبح الزمن والشرف والعذرية موضوعاته الرئيسية والمفهومات المثلى التي يدور حولها. كما أن العلاقة بين المحارم تكتسب أهمية شديدة في رواية (الصخب والعنف)، وكذلك في قصته أبشالوم في التوراة، كما يرويها سفر صموئيل الثاني.

والرواية كلها ذلك الخليط المعقد من الحقائق والتخيل ومن الملاحظة والتفسير الذي يتضمنه سرد للتجربة الإنسانية. ويمكننا القول إن رواية (أبشالوم أبشالوم) هي تصوير للصعوبات التي تنشأ في وجه من يود أن يكتب التاريخ، وبرهان على استحالة سرد حقيقة ما حدث بالفعل، وعن كيفية نشوء أسطورة ما.

وفي عام 1930 ظهرت رواية (ساعة كنت أحتضر). إنها رواية بسيطة ومحيرة معاً، فهي من ناحية التركيب والأسلوب تدل على براعة فوكنر العجيبة، فالرحلة الجنائزية في (ساعة كنت أحتضر) قد توحي بتيه موسى عند خروجه من مصر، أو بعبور نهر الأردن، أو رحلة الموتى الشاقة عبر نهر ستكش في العالم السفلي، أو قوافل الحج المتقاطرة إلى بيت الله الحرام في مكة، وهذه القصة لا تقلل من شأن الأنانية، والجشع والهوس والحماقة الإنسانية الصريحة.

أما رواية (نورفي أب) فتدور حول روح الاستقامة، ويتألف كتاب (الذين لا يقهرون) – 1938 من خمس قصص على شيء من الطول تدور كلها حول مالقيه بايا ردسرتوريس من أحداث في الحرب الأهلية، ويقوم هو ورفيقه الزنجي (رنكو) بعدد من المغامرات. وموضوع هذه الرواية هو الصراع بين آل توريس الذين تحفزهم للفعل حوافز من التقاليد الموروثة، وآل سنويس الذين لا يتمسكون بشرع خلقي، ويلجؤون إلى الخبث والخديعة. وتتعلق مواضيع روايات فوكنر وأقاصيصه بالفضائل المسيحية الأولية، كاحترام الذات واحترام الآخرين، والصفح عن الذات والآخرين، والجلّد، وموازنة التواضع بالكبرياء، والمحبة. غير أنه ليس بالمعجب كثيراً بالمسيحيين العاملين بدينهم، ففوكنز يصب بعضاً من سخريته على الواثقين من تقواهم الراضين عن أنفسهم، فهو يحتقر التزمت في التفكير، المتصلب، سواء كان هذا التزمت في خدمة التقاليد الجنوبية أو العقائد المسيحية، ولما كانت أغلبية أحداث قصصه في أصقاع الجنوب، فإنه كثيراً ما يصور هذه الفضائل والرذائل عن طريق العلاقات بين السود والبيض.

إن فوكنر كاتب عظيم، ولعله أكبر الروائيين الأمريكيين. غير أن لديه بساطة جوهرية في الذهن هي جزء من عبقريته، فهو ليس بالكاتب المعقد الفكر كهنري جيمس أو جوزف كُنراد أو جيمس جويس، ففي موضوعاته بساطة موضوعات التوراة، وتعقيدها. وقواه الإبداعية زاخرة جداً، وقد أضاف الكثير إلى نظرية الرواية كشكل من أشكال الفن، وهو أيضاً من أمراء الأسلوب، من أمراء البيان الرفيع والبيان الشعبي، وقد قال في ذلك أحد نقاده: (في نثر فوكنر صوت زمان سالف، كبوق الصياد).

فلغة فوكنر وعالمه الخيالي يستنفران الماضي، أو يقرنان الماضي بالحاضر، ففن فوكنر الروائي من بعض النواحي، أقرب إلى الواصفات الأدبية الباكرة منه إلى (الواقعية الجديدة) وقد كان فوكنر على وعي دائم بالدرامة الأليزابيثية والرواية الروسية، والرواية الحديثة، كما أوجدها جيمس وكونراد وجويس، فتراث فوكنر المزدوج الأمريكي والأوربي على شيء من التعقيد، وقد أحس هو بما فيه من تباين وتنويع.

لقد آمن فوكنر بحرية الفرد وحقه في التملك دون تميز، ولكن كثير ما تتحكم العواطف في الإنسان ويستبد به الجشع فيفقد سلطان العقل. وهنا يقول فوكنر إن الفضيلة لا حول لها ولا قوة أمام الاستبداد والعنف، ولا مكان لها إلا إذا اختفت القوة وتلاشى العنف.

العدد 1105 - 01/5/2024