معالم التأصيل الريادي في شعر صلاح عبد الصبور

كان الشاعر صلاح عبد الصبور يؤمن بمشروعية التجديد في الشعر من خلال (توطيد الصلة بالتجربة التراثية وإقامة التوازن بين معطيات الماضي والحاضر، ومن خلال ثقافته الإنسانية الواسعة والتعرف على معطيات الفكر والأدب العربي، وامتلاكه لحاسة نغمية قادرة على تشكيل الكلام على نحو يحرك الوجدان). وقد رأى الدكتور شوقي ضيف، صلاح عبد الصبور نموذجاً للشاعر الذي توافرت له كل المزايا التي تمكنه من ريادة شعرية حقيقية، على مستوى المضامين وعلى مستوى الأداء اللغوي والبناء الفني للقصيدة. وقد استخدم صلاح في قصيدته (الحزن) الكلمات الدارجة، وجلب إليه في وقتذاك نقداً كثيراً ولكنه يرى أنه حقق في هذه القصيدة الوحدة العضوية، من خلال الأداء الشعري الممتزج بالخيال. وفي ديوانه الأول (الناس في بلادي) أمل قوي في أن ينعم الإنسان بالحرية والعدالة، فالظلام يترامى حوله على كل شيء، فكل مافي الوجود والحياة حالك شديد للسواد، إذا لم يبق بها سوى الألم واللوعة، ورحلة الضياع، ودخان يخنق الأنفاس، وقطط تموء من هول المطر، وكلاب تتعاوى، ورعود، والعام عام جوع. (يا صاحبي إني حزين / طلع الصباح فما ابتسمتُ ولم يُنر وجهي الصباح / وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح / وغمستُ في ماء القناعة خبز أيامي الكفاف../ حزن تمدّد في المدينة / كالأفعوان بلا فحيح).

 ولمس الدكتور عز الدين إسماعيل في دراسته لشعر صلاح عبد الصبور (عاشق الحكمة، حكيم العشق) تمثل صلاح النموذج الإنساني الذي تشكل في هذا الشعر، وأصبح يمثل بنية من أبنية الوعي الحضاري المعاصر. فقد عرفت الإنسانية مثل هذا النموذج (فاوست) إيداع العقلية الألمانية، ونموذج (دون جوان) من إبداع العقلية الأسبانية. فالأول كان يسعى إلى الحصول على المحال في باب الحقيقة، فلما أعجزته راح ينشد المتعة والثروة والقوة، والثاني راح يبحث عن الحب في كل مكان، وقد ظل نموذج الباحث عن الحقيقة والباحث عن الحب يعيشان في وعي البشرية منفصلين، واستطاع صلاح عبد الصبور في شعره أن يقدم صورة لنموذج شعري يستوعب تجربة النموذجين في بنية موحدة.

 وفي ديوانه ( أقول لكم) نقرأ في قصيدة القديس إرهاصاً بالحلاج، إذ نستمع إليه وهو يخطب في الغرباء والفقراء والمرضى: (لأني حينما استيقظت ذات صباح / رميت الكتب للنيران ثم فتحت شباكي / وفي نفس الضحى الفواح / خرجت لأنظر الماشين في الطرقات والساعين للأرزاق / وفي ظل الحدائق أبصرت عيناي أسراباً من العشاق).

 ويدخل الأستاذ عبد الرحمن فهمي إلى شعر صلاح من مدخل آخر بدراسته للرؤية القصصية، ويرى أن أهم ما يميز تجربة صلاح الشعرية توظيفه (الرؤية القصصية) في بناء قصائده، والرؤية القصصية في نظر عبد الرحمن فهمي هي قدرة خاصة لدى الفنان، يحول بها الموضوع إلى أحداث مترابطة ومتحركة، وهذه الرؤية تكتسب فنيتها من إحساس الفنان بشخصيته، والنفاد إلى أعماقها، وبعد تمكن صلاح من توظيف هذه الرؤية، استطاع الخروج من إطار القصيدة التقليدي إلى إطار القصيدة الجديدة، ثم إلى تجربة الشكل الجديد، وتلمس ذلك في ديوانه الأول (الناس في بلادي) وفي ديوانه الآخر (الإبحار في الذاكرة). يقف عبد الرحمن فهمي عند قصيدتي (الشعر والرماد) و(إجمال القصة) ليؤكد من خلال تحليلهما في ضوء مفهوم الرؤية القصصية كيف استمرت هذه الأداة الفنية، وكيف تطورت حتى بلغت النضج. وتكتسب الرؤية القصصية فنيتها من إحساس الفنان بشخصيته والنفاد إلى أعماقها، وهذه خاصة مميزة لشعر صلاح:

(بالأمس في نومي رأيت الشيخ محي الدين / مجذوب حارتي العجوز / وكان في حياته يعاين الإله / تصوري..!.. ويجتلي سناه / وقال لي ((… ونسهر المساء مسافرين في حديقة الصفاء / يكون ما يكون في مجالس السحر / فظن خيراً لا تسلني عن خبر).

وصلاح عبد الصبور بوجهه الدونجواتي ووجهه الفاوستي لم يكن يحمل هذين الوجهين منفصلين، بل كانا مندمجين، كان كل منهما يصبح قناعاً للآخر وفقاً للظروف والمواقف:

(تعصر قلبي الوحدة في ساعات العصر المبطنة الخطوات /.. أمضي عندئذ أتسكع في الطرقات / أتتبع أجساد النسوة / أتخيل هذا الردف يفارق موضعه ويسير على شقيه / حتى يتعلق في هذا الظهر، أو هذا النهد يطير ليعلو هذا الخصر / (وأعيد بناء هذا الكون) وروح إعجاب الشاعر صلاح عبد الصبور بأبي العلاء الذي ألقى على شعره روحاً ساخرة نفاذة، وألقى بظلال من الحكمة والهموم الكونية. والكاتب أحمد عنتر مصطفى في مقاله (الحس الساخر في شعر صلاح عبد الصبور) يؤكد ذلك الجانب الملهوي الكامن في الحس الساخر الذي يفرج مافي النفوس من ضيق وألم:

إذا كان جسمي للتراب أكيلة 

فكيف يسر النفس أني بادنُ؟

أو: يدٌ بخمس مئين عسجدٍ فُديت 

مابالها قطعت في نصف دينار؟

ونراه في ديوانه (أقول لكم) يسخر من الوعاظ مثيري الدموع ببضاعتهم المشجية: (وقفت أمامكم بالسوق كي أحيا، وأحييكم / لا أبكي، وأبكيكم / وما غنيت بالموتى لأصنع من جماجمهم / عمامة واعظ).

 ويطرح الشاعر صلاح عبد الصبور في ديوانه (الناس في بلادي)، ولاسيما في القصيدة التي تحمل اسم عنوان الديوان مفاهيم جديدة للشعر والرؤية الشعرية ولوظيفة الشعر الفنية والروحية والاجتماعية، فيقف الدكتور علي عشري زايد دراساً عنصر الحزن الذي يهيمن على كثير من قصائد الديوان وارتباط هذا الحزن بمعاناة الشاعر، وارتباط هذه المعاناة بالليل، ثم يقف عند عنصر آخر وهو عنصر الموت، وهو يشغل رقعة واسعة من مساحة الرؤية الشعرية في الديوان ثم يرصد إلحاح الظاهرة الكونية على وجدان الشاعر. ثم يقف عند عنصر الحب، فيكتشف منحاه الرومانسي من جهة، وغلبة التجريد عليه من جهة ثانية، ومن مكونات الرؤية الشعرية في هذا الديوان هو عنصر الوطن، يظهر هذا العنصر من خلال مفهوم الاستشهاد في سبيل الوطن عبرالوقوف عند صياغة تلك الرؤية كاللغة، والصور والرموز، والعناصر التراثية، العربية والإسبانية.

فنجده يتغنى با ستشهاد قريبه الطيار محمد نبيل في ثلاث قصائد من الديوان، هي (الناس في بلادي) (وحين يوغل المساء أهتف اسمه الحبيب / أدعوه أن يخفّ لي في أفقه الرحيب / يجيء… يكسر قلبي / ويتكئ جنبي على سريري / لكن عينيّ تطرقان…تغشيان / وكيف لي… وجرحه في وجهه مصباح). وفي ديوان (أحلام الفارس القديم) تتبلور رؤية الشاعر للعالم، تلك الرؤية الوجودية الغنية بالدلالات. ونلمس فيها إدانة للذات، وإدانة لواقع الحياة، مسجلة في جانب عقم الإنسان، وفي الجانب الآخر عقم الوجود. وهما ركنا القضية التي ظلت تلح على عقل الشاعر ووجدانه. واستخدم الشاعر منهج الأسطورة وأسلوب الدلالة، واستغلال الطاقة الإيحائية للأبنية الصوتية، وتكرار بعض الصيغ وأسلوب التداعي والعناصر الدرامية المختلفة، كالحوار والتقاطع، والمزج وتعداد الأصوات، ويقوم الشاعر بإشباع الايقاعات الناتجة عن استغراقه في وصف عيني المرأة (عينان سوداوان…. عينان سرديان / عميقتان موتا / غريقتان صمتا). ويصل الكاتب محمد بدوي في تحليله لقصيدة (الموت بينهما) إلى لب مأساة (إنسان صلاح عبد الصبور)، هذه المأساة التي تتمثل في تشويه العلاقة بالله، بعد أن فرّ الإنسان من مسؤولياته، وملأ الأرض جوراً وظلماً وطغياناً. وفي فرار الإنسان من الصوت الإلهي، يفقد العالم مابه من نقاء وحب مشاركة، ويصبح الشعر الشيء الوحيد للشاعر، إليه يهرع وعليه يعبر إلى الحب والتواصل مع الآخر: (لم يسلم لي من سعي الخاسر إلا الشعر / كلمات الشعر / عاشت لتهدهدني / لأفر إليها من صخب الأيام المضني).

العدد 1105 - 01/5/2024