شيوعية.. وأفتخر!!

 منذ تفتّح وعيي على الحياة بما فيها من قيم ومفاهيم، شعرت أن بعض ما أحمله من رؤى وأفكار كان مخالفاً في كثير منه لما هو سائد في محيطي وبين بعض أقراني.. كنت أبحث عمّن يترجم لي هذا المختلف، أو يدلني على طريق أدرك وأعي معه أفكاري الجريئة التي كنت أواجه بها تخلف مجتمعي وقيمه البالية التي لا تليق بأن نحملها ونعمل على ترسيخها، لاسيما أننا من جيل كان وما زال متأثّراً ومتمسكاً بمفاهيم المساواة والعدالة الاجتماعية والتحرر من قيم وتقاليد عفا عليها الزمن، مثلما كان وما زال متأثّراً ومتمسّكاً بقيم الثقافة والفكر والعلم طريقاً وحيداً للتحرر من جميع القيود التي تعزز تخلف الإنسان والمجتمع، لاسيما ذلك الموروث الذي كان وما زال للأسف يميّز ما بين الذكور والإناث حتى في الهواء الذي نتنفسه.

كانت قراءة الكتب بكل اتجاهاتها الأدبية والسياسية هي سبيلنا الوحيد آنذاك لتعزيز ثقافتنا ومعارفنا، تلك الكتب التي لم نكن لنمتلكها، وإنما نستعيرها من آخرين ربما كانوا هم من أخذ بيدنا إلى طريق كنّا نبحث عنها، إضافة إلى علاقتنا الوطيدة بالمراكز الثقافية التي كانت حينذاك منارات حقيقية للثقافة والفكر، فالعلاقة الراقية مع القيّمين عليها، والمناقشات المستمرة كانت داعماً وسنداً لأفكارنا، وما زالت ذكرى أولئك المسؤولين عن هذه المراكز متشبثة بفكرنا ووجداننا بما تركته من أثر إيجابي متميّز كتميّزهم.

كل هذا جعلني أتلمس ملامح الفكر الذي أنشد، ووضعني على الطريق الذي أبحث عنه ليوصلني إلى غايتي التي يهفو فكري إليها.. كان الفكر الشيوعي هو ضالّتي.. والحزب الشيوعي هو ما أبحث عنه دون أن أعي بداية أنه هو، فانتسبت إليه بكل فخر وشجاعة وفرح..

كان الحزب فعلاً مدرسة حقيقية تعلمت فيها كيفية رؤية الأشياء والأمور والتعامل مع القضايا والمسائل التي كانت تثير تساؤلاتي، سواء على المستوى الشخصي أو العام، فنهلت بكل استطاعتي وتوقي للمعرفة والعلم، مما جعلني أتخلص من كثير من الشوائب التي تعيق نظرتي ومفاهيمي العلمية في الحياة كإنسانة أولاً، ومن ثمّ كامرأة في مجتمع لا يراها سوى أم وزوجة وربة بيت مطيعة، وكل ما عدا ذلك فهو مرفوض، وفي أفضل الأحوال غير مرغوب فيه.

انجذبت بقوة ورغبة حثيثة إلى مبادئ الماركسية والشيوعية، وإلى أفكار الحزب وأهدافه، لأنها كانت تمثّل لي البوصلة التي بحثت عنها بداية الشباب، فحملتها في فكري نهجاً وممارسةً. تعرفت إلى ما تعنيه حقوق المرأة، وكيفية تبلورها من أجل التعامل مع المجتمع بطريقة وأسلوب يقرّبني أكثر فأكثر منه، بعيداً عن المواجهات المباشرة أو التحدي الذي كان من الممكن أن يجعلني أخسر أقرب المقربين، فنسجت في محيطي علاقات اجتماعية طيبة ووطيدة، لاسيما في أوساط نساء الحي اللواتي بتن يستفسرن مني عن العديد من المسائل والأمور التي تتعبهن سواء في علاقتهن بأسرهن (أب، أخ، وزوج)، وكذلك ما يختص بمسألة تربية الأبناء وما يعترضها من إشكاليات تقف العديد من الأمهات حيالها عاجزة عن التعامل وإيصال ما تريد لأبنائها. كل هذا دون أن يعرفن هويتي السياسية التي كانت حينذاك تهمة فظيعة يمكن أن تُبعِد عني حتى أقاربي. آثرت يومذاك أن أخفي تلك الهوية كي أكسب ذلك المحيط بأقل الخسائر الاجتماعية، ولأنني كنت مؤمنة أنه لا يمكننا خرق أسوار الحرملك بكل ما فيها من تابوهات إن أعلنّا انتماءنا الحزبي والسياسي.

وقبل كل هذا، حين أصبحت أمّاً، رأيت أمومتي من خلال فكري السياسي والعلمي، لا من غريزة الأمومة وعفويتها وتلقائية تربية سائدة وشاملة، فزرعت في شخصية أبنائي ما أحمله من مفاهيم وقيم شيوعية، وبطريقة غير مباشرة آثرت الابتعاد ما أمكن عن التمييز ما بين الذكور والإناث، مثلما آثرت سلوك التربية العلمية قدر الإمكان، إلى أن كان لي أبناء متميّزون بوعيهم وفكرهم وتعاملهم مع ذواتهم ومع المجتمع والحياة، أبناء يثقون بذواتهم وما يحملون من قيم تَميّزهم.

وهنا، لا يمكنني إغفال دور الحزب واتحاد الشباب الذي ساعدني في تعزيز تلك المسائل والمفاهيم لدى أبنائي، إن كان على مستوى عمق معرفتي التي عززها انتمائي إلى الحزب، أو على مستوى مما كان يقوم به اتحاد الشباب من تهذيب انفعالات الشباب وضبطها بطريقة راقية وعلمية، إضافة إلى فتح الآفاق الفكرية والثقافية أمامهم.

انطلاقاً من كل ما سبق، فإني مؤمنة اليوم أكثر من أي وقت مضى، بأن اعتناقي لأفكار الماركسية والشيوعية هو ما عزز السمات الشخصية التي وُلِدتُ عليها، وأهّلتني لأكون إنسانة منطقية وعقلانية وعلمانية في تعاملي مع كل المهمات والاتجاهات التي كانت وما زالت أمامي، سواء على المستوى الشخصي أو العام، وسواء كنت أمّاً، أو امرأة وناشطة في المجتمع.

لا أنكر خذلاني من تكرار حالات الانقسام التي تعرّض لها الحزب، والتي أفقدته الكثير من ألقه وتوهجه بين الناس، وبالتالي انخفاض مستوى تأثيره في الشارع أو المجتمع الذي اهتزت ثقته بأهداف الحزب وأفكاره، حتى بات في نظر الغالبية حزباً تقليدياً بلا فاعلية تجاه ما يصبو إليه الناس من هذا الحزب تحديداً دون سواه، نظراً للجماهيرية الواسعة والثقة الكبيرة التي أهّلت الحزب في خمسينيات القرن الماضي لإيصال أول نائب شيوعي إلى البرلمان السوري.

أتوق اليوم لحزب شيوعي يعيد النظر في مسيرته كاملة، لاسيما تلك التي سادت فيها حالات الانقسام، فيعمل مجدداً على تعزيز وحدته وتفعيلها بعيداً عن حالة التشتت وضياع الجهود والجماهير، مثلما يعيد النظر في الطريقة والنهج والفاعلية التي يمكنها أن تعيد إليه ثقة المجتمع، لاسيما ثقة أولئك المضطهدين والفقراء الذين علّقوا آمالهم وخلاصهم عليه، خصوصاً أننا في زمن وحرب أطاحت بكل القيم ومفاهيم العدالة والمساواة والمواطنة الحقيقية، وأخاله الزمن المناسب كي يجدد الحزب ذاته في كل الاتجاهات انطلاقاً من مؤتمره القادم.

لذا أقول وبكل جرأة وشجاعة، وبعد مسيرة عمر امتزجت سنواته بحياة الحزب، إنني شيوعية.. وأفتخر!!

العدد 1104 - 24/4/2024