مشروع التقرير السياسي المقدم إلى المؤتمرالثاني عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد

مشروع التقرير السياسي (الصفحات 2-3-4-5)

(أقرّ المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الموحّد، مشروع التقرير السياسي الذي سيقدم إلى المؤتمر الثاني عشر للحزب، كما أقرّ طرحه للنقاش العام على صفحات (النور). وترحّب (النور) بتلقي الملاحظات والاقتراحات حول هذا المشروع، على أن تصل إليها قبل انعقاد المؤتمر أواخر تشرين الأول الحالي.)

ينعقد المؤتمر الثاني عشر لحزبنا الشيوعي السوري الموحد في خضم العام الخامس من حرب وطنية كبرى يخوضها شعبنا في سورية، بجميع فئاته وشرائحه، دفاعاً عن أرض الوطن وحفاظاً على استقلاله ووحدته وسيادته، ومن أجل مستقبل مشرق لجميع أبنائه يضمن لهم فيها الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، في دولة تقوم على أسس المواطنة والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان، وذلك في مواجهة أعتى وأشرس هجمة يشنها ضده تحالف واسع من القوى الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، يضم معظم الدول الأوربية والعديد من الدول الإقليمية، منها السعودية وتركيا وقطر وباقي دول الخليج العربي، وقوى رجعية وسلفية وشتى أشكال المجموعات الإرهابية والتكفيرية التي تضم عشرات الألوف من المسلحين الذين (نفروا) من أكثر من مئة بلد في العالم وهم يحملون أكثر أنواع الفكر تخلفاً وظلامية ووحشية، لترزح بلادنا في ظل أسوأ كارثة إنسانية مأساوية لم تعرف لها في تاريخها مثيلاً.

سورية بلد الحضارة والثقافة والتاريخ العريق من تدمر إلى أفاميا وألوف المواقع الأثرية، موطن الإنسان الأول، وحاضنة أوغاريت مولد الأبجدية الأولى، كانت ملاذاً لكل المضطهدين والمعذّبين في الأرض على مر العصور. إليها لجأ الأرمن حين تعرضوا للمذابح والإبادة على يد العثمانيين الأتراك، وإليها جاء المهاجرون من شمالي القفقاس وجنوبي أوربا نحو (شام شريف) وحياة أكثر أمناً وهناء.

وهي دمشق التي تغنى بها الشعراء (لا زلفى ولا ملقا)، حيث كان بردى يجري و(يصفّق) للقاء الإخوة العرب لتعقد على ضفتيه المؤتمرات الموحِّدة للنضال العربي التحرري.

هي (شآم المجد الذي لم يغب)، التي كانت إن (ظمئ الشرق) يوماً ما كان له غير الشام تسكب له من روحها وتسقيه من تضحياتها، وأهلوها أحباب العرب جميعاً، فإن ضاقت بهم الدنيا يوماً وحلّت بهم النوائب لقوا فيها المأوى والملاذ الآمن، وجد الإخوة الفلسطينيون في أرضها أهلاً لهم منذ أن شرّدهم الاحتلال الصهيوني لوطنهم عام 1948حتى اليوم، وفتحت بيوتها للإخوة العراقيين حين داهمهم الاحتلال الأمريكي، وشرعت قلوبها للأشقاء اللبنانيين حين نشبت بينهم حرب أهلية طوال أكثر من أربعة عشر عاماً، وكذلك حين أجبر العدوان الإسرائيلي عشرات الألوف منهم على اللجوء إليها.

هي الغوطة حيث يعبق تاريخ محاربة المحتل الفرنسي، ويفوح من سندسها الياسمين والنارنج ومن كل فاكهة ألوان. وهي كل بلدة وضيعة سورية من طبريّا ومجدل شمس وبصرى الشام إلى القامشلي وجرابلس، تضحك ينابيعها العذبة للعصافير وعيون الأطفال، وتهتز ساحاتها طرباً تحت دبكات الصبايا والشباب على ضفاف دجلة والفرات فرحاً بمواسم العطاء والخير العميم، هي القدود الحلبية وعنين النواعير العتيقة تحن شوقاً في مجرى العاصي، وهي غابات الفرنلق وكسب، المتعانقة مع رمال الشواطئ الذهبية.

هي الأمن والاستقرار والأمان، وفسيفساء التعايش والمحبة والإخاء بين جميع أبنائها ومكوناتها المجتمعية الدينية والطائفية والعرقية.

لقد انزاحت هذه اللوحة السورية الزاهية لتحل محلها أرض وكأن زلزالاً مريعاً ضربها فقوّض بُناها وشتّت قاطنيها. هُدمت معالم حضارية وتراث عمره آلاف السنين، سقط عشرات الألوف من القتلى ومئات الألوف من الجرحى والمعاقين، حدودها مرسومة بالدماء، بيوتها خيمات عزاء مستديم، والحزن معشعش في قلوب الثكالى والأرامل، والبؤس مخيم على ملايين الأطفال اليتامى. أكثر من نصف مواطنيها صاروا مهجّرين ونازحين داخل البلاد وخارجها، يعانون البؤس والفاقة والبرد والحر والجوع، والأسوأ من كل ذلك هو الإذلال والمهانة في الدول المجاورة، وحتى المتاجرة بالبشر وأعضائهم، وأما من لا يزال مقيماً منهم فيكابد القلق والشوق لغائب عن الديار أو مفقود.

أكثر القادرين على العمل غدا عاطلاً عنه واتسعت وتعمقت دائرة الفقر والمجاعة. وتفشّت أمراض اجتماعية خطيرة كالسرقة والتزوير والاختطاف والدعارة وتعاطي المخدرات. وتمزق النسيج المجتمعي على أسس عشائرية وقبلية وطائفية ودينية وإثنية، ونمت انتماءات ما قبل الدولة على مثل تلك الأسس، على نحو لم تشهده سورية في عصرها الحديث. وتباعد الإخوة والأصدقاء وتبعثر شمل العائلات من منطلقات ومواقف سياسية مختلفة أو متناقضة أحياناً.

ودُمّرت البنى التحتية في البلاد، والأملاك الخاصة والعامة، تلك التي قدم شعبنا الكثير الكثير من التضحيات وبذل العرق والدماء والمال من أجل بنائها خلال عقود وعقود طوال. فأُحرقت آبار النفط والمصافي، وخرّبت الطرقات والجسور وسكك الحديد، والمدارس والمستشفيات وصوامع الحبوب، ومحطات توليد الطاقة، واستبيحت المساجد والكنائس والأديرة ونبشت القبور، وفكّكت المصانع وسُرقت، وحطّمت معالم حضارية وتراثية ذات قيمة تاريخية عالمية لا مثيل لها، ولا يمكن تعويضها لاحقاً، ونهبت محتوياتها وآثارها وهرّبت لتباع في الخارج بأبخس الأثمان.

حوالي نصف مساحة البلاد غدا خارج سيطرة الدولة، وكذلك معظم المعابر الحدودية مع دول الجوار، واستبيحت بعض المناطق من قبل شتى التنظيمات الإرهابية ومنها ما أعلن عن إقامة ما سمي (الدولة الإسلامية في العراق والشام) (داعش)، مما يهدد في حال استمراره بتقسيم علني للبلاد. علماً أن غالبية السكان (ومنهم ملايين المهجرين) يعيشون اليوم في المدن والمناطق التي تقع في ظل الدولة السورية.

وارتُكب في سورية خلال هذه السنوات الخمس ما لا يمكن وصف بشاعته من الجرائم بحق الإنسانية، فذُبح البشر ذبح النعاج وقطعت الرؤوس والأوصال ـ حتى رؤوس تماثيل المعري وهارون الرشيد وإبراهيم هنانو لم تنجُ من ذلك.

إن نزوح الملايين وهجرتهم داخل البلاد وخارجها يشكل واحدة من أخطر النتائج الإنسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نجمت عن الحرب القائمة في البلاد حالياً. ففضلاً عن تفكك العائلات والأسر وتباعدها في شتى بقاع الأرض، وتبدّل البيئة الاجتماعية في بعض المناطق، والمعاناة الإنسانية وغرق الألوف في البحار، تخسر البلاد ملايين الشباب من ذوي الكفاءات والخبرات العلمية والثقافية التي لا يمكن تعويضها مستقبلاً، ومن الواضح أن الدول الإمبريالية تسعى لاستغلال هذه الكارثة سياسياً في حربها ضد سورية من ناحية، والاستفادة من العمالة السورية الوافدة إليها من ناحية أخرى.

وكانت معاناة النساء هي الأعظم والأكثر مأساوية، فما من امرأة إلا صارت أرملة أو ثكلى أو محزونة على مهجّر أو معتقل أو مفقود، أو مسكونة بالخوف على من بقي منهم حولها، عدا المتاجرة بالكثيرات في أسواق السبايا والنخاسة وزواج المتعة والرذيلة. وفقد الأطفال طفولتهم وسني مراهقتهم وحنان الأهل، وهجروا مقاعد دراستهم، في خضم حرب تهوي بهم إلى التشوه النفسي في حضيض الأحقاد والتطرف والعنف، فضلاً عن الاستغلال الجسدي في أبشع أنواع العمل، ومن ذلك حمل السلاح، الأمر الذي يتطلب لإعادة تأهيلهم مستقبلاً جهداً هائلاً وردحاً طويلاً من الزمن.

وكفّر وخوّن المثقفون بعضهم البعض الآخر، بين (موالٍ) و(معارض)، وخلع البعض منهم فكره القومي أو العلماني أو الماركسي السابق، وانتقل إلى المواقف السلفية أو النيوليبرالية أو العدمية، في الوقت الذي يفترض أن يؤدي فيه المثقفون من كتّاب وأدباء وفنانين دوراً طليعياً هاماً في نشر الثقافة الوطنية المساعدة على تمتين الوحدة الوطنية، وكذلك في محاربة الأفكار السلفية والتكفيرية، وتعبئة الأجيال الصاعدة من الشبيبة بالفكر الوطني والتقدمي والعلماني، وفي إشاعة العلاقات الديمقراطية بينها على نحو يجعلها تقبل الرأي والرأي الآخر، في إطار الوحدة الوطنية.

في هذه الظروف استشرى الفساد دون أي وازع أخلاقي أو قانوني على أوسع نطاق في شتى مفاصل الدولة ومجالات المجتمع، وأثرى تجار الحروب والأزمات على حساب شقاء الجماهير البائسة ودمائها، وهي تدفع ثمن هذه الحرب التي يخوضها شعبنا بكل بسالة وتضحية وصمود.

الدولة السورية هي الهدف

إن طموح شعبنا السوري إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية عريق وعميق الجذور، فقد ناضل شعبنا ضد السيطرة العثمانية، وقدّم الشهداء ضد هذه السيطرة، وما زال يخلّد ذكرى من أعدمهم العثمانيون في السادس من أيار من كل عام. وكان تأسيس العديد من الجمعيات والمنظمات الاجتماعية والسياسية في مطلع القرن العشرين ـ ومنها تأسيس حزبنا الشيوعي عام ،1924 ثم الحزب القومي السوري الاجتماعي وحزب البعث والأحزاب الأخرى لاحقاً- تعبيراً عن طموح شعبنا إلى الحرية والاستقلال عن الانتداب الفرنسي من ناحية، وإلى العدالة الاجتماعية من ناحية ثانية.

وخاض شعبنا النضال بمختلف أشكاله – ومنها النضال المسلح- ضد المحتل الفرنسي، بقيادة الزعماء الوطنيين، ومنهم صالح العلي وإبراهيم هنانو وسلطان باشا الأطرش وغيرهم، الذين عبّروا بتلاحم ثوراتهم أوضح تعبير عن الوحدة الوطنية التي تضم شعبنا السوري. ولا تزال مجابهة البطل يوسف العظمة مع ثلة من المقاتلين البواسل للجيش الفرنسي في معركة ميسلون مثالاً للبسالة والتضحية للجندي السوري في مجابهة أعداء الوطن.

ومنذ جلاء المستعمر عن أرضنا، وتحقيق الاستقلال السياسي، رفض شعبنا جميع أنواع الدكتاتوريات التي حاول المستعمرون إعادة سيطرتهم على سورية من خلالها، وقد ربط شعبنا دائماً بين الديمقراطية من جهة، وضمان الاستقلال ومجابهة المستعمرين ومؤامراتهم من جهة أخرى. وهكذا جابه جميع المؤامرات والمشاريع التي حيكت ضده أواسط القرن الماضي، كمشروع إيزنهاور و(الهلال الخصيب) والحشود التركية عام 1957 وغيرها، بمقاومة شعبية وتحالف واسع ضم جميع القوى الوطنية آنذاك وخاصة خلال أعوام 1954ـ 1958.

وكانت المؤامرة الكبرى على أمتنا العربية بإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، الذي استمر منذ قيامه حتى اليوم في طرد الشعب الفلسطيني من أرضه وقمعه بشتى الوسائل وحرمانه من أبسط متطلبات الحقوق الإنسانية والكرامة. كما شن هذا الكيان الحروب على الدول العربية واحتل أراضي في ثلاث دول منها في عدوانه عليها عام ،1967 واستمر في اعتداءاته وحروبه اللاحقة، على لبنان وعلى الضفة الغربية وغزة، التي سقط فيها عشرات الألوف من الضحايا بين شهداء وجرحى، وارتكب فيها أبشع الجرائم، ورفض هذا الكيان الإذعان لأي من قرارات الشرعية الدولية المتضمنة حق الشعب العربي الفلسطيني في العودة إلى أرضه وإقامة دولته المستقلة.

ورغم الانتصارات الباهرة التي حققها الجيشان العربي السوري والمصري في حرب تشرين ،1973 إلا أن توقيع اتفاقيات الذل والخيانة في كامب ديفيد ووادي عربة أفرغ هذه الانتصارات من محتواها، وأفسح في المجال لتقسيم الصف العربي.

ومع ذلك تصاعد النضال المسلح ضد الاحتلال، من خلال المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها، ونهوض المقاومة اللبنانية التي انطلقت طلائعها الأولى بفصائل الحركة الوطنية من شيوعيين وغيرهم في البداية، ومن حزب الله لاحقاً، وبدعم متنوع الأشكال من قبل سورية وإيران، مما ساعد وضمن تحقيق الانتصارات اللاحقة على العدو الصهيوني وخاصة دحره عن لبنان عام ،2000 وصدّها له خائباً في حرب تموز2006.

لقد شكّل نشوء هذا المحور المقاوم للاستسلام والخنوع لاتفاقيات مذلة مع العدو الصهيوني برعاية أمريكية، وتصاعد قوته وإمكانياته، وآفاق تطوره المستقبلية كخطر مباشر على الكيان الصهيوني، ورفضه الإذعان لمحاولات الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية إخضاعه لمشاريعه في رسم خريطة المنطقة وفق مصالحها، وتنامي التأييد الشعبي له بين جماهير الأمة العربية، شكّل الأساس والمبرر لازدياد حدة التآمر ضد هذا المحور، وشن الحرب عليه بغية إسقاط قاعدته الأساسية: الدولة السورية.

(الربيع العربي) وحركة التحرر الوطني

في العديد من البلدان العربية كانت تتجمع وتتضافر جملة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية التي أدت إلى نمو الغضب الشعبي وتصاعده في هذه البلدان. ففضلاً عن سياسة التبعية والخضوع للولايات المتحدة وحلفائها (كما في مصر والمغرب والأردن) كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تتدهور على نحو مريع، وازداد التمايز الطبقي، مما أغرق الجماهير في حمأة الفقر والجوع المدقع والبطالة الواسعة وخاصة في أوساط الشباب، وذلك في ظل انعدام الحريات السياسية والديمقراطية واحتكار السلطة، وانتشار الفساد على نطاق كبير.

وهكذا انطلقت في أواخر عام 2010 وأوائل 2011 انتفاضات شعبية عارمة في كل من تونس ومصر في البداية، ولاحقاً في اليمن وليبيا، رافعة شعارات الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، ومطالبة بإسقاط الأنظمة القائمة فيها.

إلا أن اتجاه هذه الحركات أخذ مسارات مختلفة في كل من هذه البلدان، حسب توازنات القوى الداخلية من جهة، والتدخلات الإقليمية والدولية فيها من جهة أخرى، فتراوحت النتائج بين سعي قوى إسلامية لإقامة دكتاتورية من نوع خاص (مصر)، أو عودة النظام السابق مع جميع المواصفات التي تمتع بها خلال عقود بلبوس جديدة (تونس)، أو نشوب الحروب الأهلية الطاحنة وتعميم الفوضى (ليبيا واليمن). ولم تكن هذه النتائج في جميع الأحوال هي ما كانت قد طمحت إليه الجماهير في مطلع تحركاتها.

فانقلب ما سمي (بالربيع العربي) إلى شتاء يعصف بحياة شعوب هذه البلدان ومستقبلها. ويردّ ذلك إلى أن الدول الإمبريالية ذات المصالح الجيوسياسية والنفطية عملت بمختلف الوسائل، ومنها التدخل العسكري المباشر (كما جرى في ليبيا سابقاً واليمن لاحقاً) على أن تُفشل وتُسقط محاولات قيام دول عربية ذات سياسات مستقلة عنها وديمقراطية حقاً تحول دون تحقيق تلك المصالح.

وكان من أسوأ مفرزات هذا (الربيع) أن غُيّبت القضية الفلسطينية عن محور النضال العربي، وتعمقت الصراعات بين فصائلها، وتفرّد الكيان الصهيوني باستباحة الأرض والشعب، بدعم من الولايات المتحدة، وابتعد أفق إيجاد حل عادل يعيد إلى الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة. وفي الوقت ذاته جرى ضرب العديد من الجيوش العربية أو تحطيمها أو السعي لإضعافها، لما فيه مصلحة هذا العدو الإسرائيلي.

إن هذه النتائج المأساوية التي انتهت إليها الانتفاضات الشعبية العربية تعود لا إلى التآمر والتدخل الخارجي ضدها وحسب، بل وترجع بشكل أساس إلى التراجع الذي كان قد أصاب حركة التحرر الوطني العربية في العقود الأخيرة من القرن العشرين بعد هزيمة عام ،1967 ووفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وتوقيع المعاهدات والاتفاقيات المذلة مع العدو الصهيوني (من كامب ديفيد إلى أوسلو ووادي عربة)، وتقهقر حركة المقاومة الفلسطينية، وانحسار الفكر القومي إثر ذلك، وكذلك تراجع الحركات والاتجاهات اليسارية والماركسية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الاشتراكي، فضلاً عن فقدان الحريات الديمقراطية أو ضعفها في معظم البلدان العربية، والتضييق على التيارات اليسارية والعلمانية، مما أفسح المجال لاتساع المد الإسلامي والسلفي المدعوم من القوى الإمبريالية العالمية والرجعية العربية.

العوامل الداخلية العميقة للأزمة السورية

لقد رأت الولايات المتحدة وحلفاؤها في مجريات الأحداث الجارية في المنطقة العربية الفرصة المواتية لتنفيذ مآربها ومخططاتها المعدة سابقاً لإعادة رسم خريطة المنطقة بما يخدم مصالحها المشار إليها آنفاً. وكان في مقدمة هذه الأهداف تهديم الدولة السورية التي وقفت طوال العقود الماضية حجر عثرة أمام تنفيذ مآربها الجيوسياسية والنفطية والصهيونية، وخاصة بعد إعلان يهودية الدولة الصهيونية، ونثر العديد من مشاريع تقسيم المنطقة إلى دويلات على أسس طائفية أو إثنية.

وكانت قد نضجت خلال العقود الماضية عوامل كثيرة أوجدت داخل سورية التربة الداخلية المناسبة، التي أمكن للعديد من القوى الإقليمية والدولية استغلالها والاستفادة منها لتجنيد القوى اللازمة لشن حربها ضدها.

فقد أدت السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعت خلال سنوات إلى تدهور المستوى المعيشي لغالبية المواطنين سنة بعد أخرى، ومنها سياسة الانفتاح الاقتصادي، واتباع نهج ما سمي باقتصاد السوق الاجتماعي، الذي أهمل منه عملياً الجانب الاجتماعي، وتراجع دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، أدت إلى اتساع التفاوت الطبقي وازدياد الأغنياء ثراء وغنى، والفقراء فقراً ومعاناة. وترافق ذلك كله مع تفشّي دائرة الفساد والمفسدين على مختلف المستويات وفي شتى مجالات الدولة والمجتمع. (راجع التقرير الاقتصادي).

وبذلك أفقدت هذه السياسات الكثير من المكتسبات، التي كانت قد تحققت في سنوات سابقة في بناء الدولة والبنية التحتية، كالسدود ومصافي النفط والطرقات والجسور والجامعات والمستشفيات، من نتائجها الإيجابية وخاصة لجهة ضمان مجانية التعليم والصحة.

وشكّلت المناطق الريفية في سورية، وخاصة في شرق البلاد، وحول بعض المدن كحلب وإدلب وغوطة دمشق، بيئة متخلفة من حيث المستوى التعليمي والثقافي، ومن ثم حاضنة للتيارات الدينية والسلفية منها على وجه الخصوص، وساعد على ذلك إهمال الدولة لهذه المناطق، فلم يجر تطويرها من الناحية الصناعية والزراعية والخدمية، مما ضاعف من اتساع دائرة الفقر والبطالة في هذه الأوساط.

كما أدت بعض الإجراءات التي اتخذت في العديد من هذه المناطق إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية فيها، كالاستملاكات الجائرة للأراضي وببدلات بخسة جداً (الساحل السوري، والمعضمية وغيرها..) والسماح باستيراد المنتجات المنافسة لبعض الصناعات الوطنية (كالنسيج والأثاث المنزلي مثلاً من تركيا) أدت لتحطيم هذه الصناعات وتدميرها في بعض المناطق (كما في حلب وبلدات الغوطة الشرقية)، ودفع أصحاب هذه الصناعات والعاملين فيها إلى حضيض البطالة والفقر، وبالتالي توفر المناخ الملائم لعمل المجموعات السلفية في هذه الأوساط.

وجرى التضييق على الحياة السياسية في البلاد من خلال الاستئثار بالسلطة، والحد من النشاط السياسي إلى أدنى حد، وشمل ذلك الأحزاب المنضوية في الجبهة الوطنية التقدمية، فقد مُنعت هذه الأحزاب من النشاط في أوساط الشباب، وحرمت من أي هامش في أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية، فضلاً عن عدم إمكانية تأسيس أحزاب مرخصة خارج إطار الجبهة، كما جرى إخضاع منظمات المجتمع المدني كالنقابات العمالية والمهنية لحزب البعث العربي الاشتراكي بصفته القائد للمجتمع والدولة وفق المادة 8 من الدستور آنذاك. وتراجع العمل السياسي العام وكذلك النشاط الفكري والجماهيري، وبضمن ذلك نشاط أحزاب الجبهة التي عانت خلال الفترة ذاتها من الانقسامات والتراجع التنظيمي.

كما أدى تدهور مستوى التربية والتعليم، لجهة ضعف الثقافة الوطنية والعلمانية في المناهج التربوية، إلى نشوء جيل مهيأ أكثر لتقبل الأفكار السلفية أو الكوسموبوليتية والعدمية. في الوقت الذي كانت فيه المنظمات السلفية تسرح وتمرح مستغلة المساجد والمعاهد الدينية، والمدارس الخاصة ومنها مدارس الأطفال ودور الحضانة، فضلاً عن استفادتها من عشرات الفضائيات التبشيرية لنشر فكرها السلفي والوهابي.

وهيض جناح الحق والعدالة، وحلت محله سيطرة الأجهزة الأمنية على مختلف نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والأهلية والمدنية في البلاد، واتساع دائرة القمع الأمني والاعتقالات لمجرد التعبير عن الرأي الآخر لسنوات طويلة، وممارسة التعذيب ضد المعتقلين.

وصُبغ الإعلام المقروء والمسموع والمرئي باللون الباهت الواحد المفتقد إلى الحرفية والحداثة والمصداقية، مما أفقده الشعبية الجماهيرية.

إن الإضعاف المتعمد للنشاط السياسي الحر والديمقراطي والتقدمي أدى عملياً إلى إفساح المجال للقوى السلفية والتكفيرية المعادية للنهج الوطني والتقدمي لإملاء الفراغ الناجم عن ذلك.

في هذه الظروف نشأت وترعرعت خلال عقود أجيال جديدة من الشباب، كانت تضيق أمامها شيئاً فشيئاً سبلُ تحقيق مطامحها في بناء حياة تؤمّن لها الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وأصبح حلم بناء أسرة وحياة عائلية رغيدة بعيد المنال، وازدادت سنة بعد أخرى نسبةُ العاطلين عن العمل بينهم، وبضمنهم خريجو الجامعات.

وقد ساعد انتشار وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة من خلال عدد هائل من الفضائيات وشبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي وأجهزة الكمبيوتر والخليوي وغيرها، على إفساح المجال أمام هذه الأجيال من الشباب للانفتاح على العالم بمختلف تنوعاته وتلاوينه على أوسع نطاق، والاطلاع على آخر معطيات التطور الإنساني في العالم في جميع المجالات العلمية والفكرية والسياسية والديمقراطية، مما أدى إلى نشوء وتطور ثقافة ومفاهيم جديدة لديهم، وغدا من المستحيل قولبة هذه المفاهيم وحصرها وفق رغبات واتجاهات محددة بعينها.

تحوّلات الأزمة السورية

في أواسط آذار 2011 انطلقت في العديد من المدن السورية حركة احتجاجات شبابية ترفع شعارات ومطالب سياسية واقتصادية مشروعة تتعلق بالحريات العامة وإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين.

إن النتائج الأولى التي توصلت إليها الانتفاضات في بعض البلدان العربية، والسهولة والسرعة التي جرى فيها إسقاط رؤوس الأنظمة التي كانت قائمة فيها، كما في تونس ومصر، والتبدلات في اليمن، والتدخل العسكري المباشر في ليبيا، خلقت أوهاماً لدى الكثيرين بإمكانية حصول أحد هذه السيناريوهات في سورية، خاصة أن دولاً إقليمية ودولية لم تُخْفِ منذ الأيام الأولى تشجيعها لما يجري في سورية، ويكفي التذكير بمشاركة السفير الأمريكي (فورد) شخصياً في المظاهرات التي بدأت في حماة.

إلا أن الحراك الشعبي في سورية سرعان ما جرى استغلاله من قبل مجموعات دينية أخذت تطبعه بصبغتها، بانطلاق المظاهرات من المساجد أيام الجمع، وتسمية تلك الأيام بأسماء دينية حصراً، وبرفع شعارات طائفية وتحريضية: (لا للحوار)، ولا وطنية: (جمعة الحماية الدولية)، وتصعيد الشعارات نحو إسقاط النظام جملة وتفصيلاً.

وساهمت الطريقة الأمنية والقمعية التي جوبهت بها التحركات الشبابية الأولى في زيادة التوتر ودفع المزيد من الشباب نحو السير وراء قوى مشبوهة موجهة من خارج البلاد، لخدمة مآرب لا علاقة لها أصلاً بالمطامح المشروعة لهؤلاء الشباب.

لقد بدا واضحاً منذ الأيام الأولى أن قوى خارجية كانت قد هيأت منذ زمن طويل جميع الوسائل والسبل للانطلاق نحو مرحلة جديدة من العنف المسلح في مجابهة النظام، ورأت في الطريقة العنيفة التي قُمعت بها التظاهرات الذريعة المناسبة لهذا الانتقال. ودخلت البلاد في أتون صراع دموي مسلح أخذ يزداد حدة وتعقيداً يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، وسنة بعد أخرى حتى وصل إلى ما نحن عليه اليوم.

إن التسميات السلفية للفصائل المسلحة التي أخذت تنبت كالفطر توضح الاتجاهات الفكرية والسياسية التي تحملها هذه الفصائل، وقد بقي ما سمّي بـ(بالجيش الحر) أكثر هذه الفصائل ضعفاً، وأقلها سيطرة على مناطق القتال، وينطبق الأمر ذاته على ما تدعوه الولايات المتحدة بالمعارضة المسلحة (المعتدلة).

كما أن المواقف المعلنة للدول الداعمة لهذه القوى والفصائل إعلامياً وبالأموال والسلاح والعتاد وبمختلف أنواع التسهيلات، وطبيعة الأنظمة في معظم هذه الدول (السعودية والخليج) التي تفتقد الحد الأدنى من الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، تكشف الأهداف الحقيقية لهذه القوى والفصائل، ويؤكد أن لا علاقة لمشاريعها بأية مطالب بالحرية والكرامة والديمقراطية. كما تأكد من خلال استهداف البنية التحتية في البلاد من سكك حديد وجسور ومصافي نفط وغيرها أن تدمير الدولة السورية هو الهدف الحقيقي لجميع هذه القوى والدول.

ولم يعد سراً أن إسرائيل تقدم جميع أنواع الدعم والمساعدة للمجموعات المسلحة على الحدود السورية، ولم يقتصر ذلك على المساعدات (الإنسانية) كما زعمت في نقل الجرحى لمعالجتهم وحسب، بل ويجري تقديم السلاح والتموين والمعلومات اللوجستية. فضلاً عن قيامها مباشرة بأكثر من غارة جوية وصاروخية على مناطق داخل الأراضي السورية.

بإعلان مشروع (الدولة الإسلامية) عام ،2014 بعد احتلال الرقة واعتبارها عاصمة لها، واجتياح الموصل في العراق، دخلت الأزمة السورية مرحلة جديدة كان لها انعكاسات كبيرة وهامة طالت المحيط العربي وانتقلت شراراتها إلى الكثير من دول العالم.

لقد قاتل الجيش السوري ويقاتل بكل بسالة وتضحية ضد جميع المجموعات الإرهابية والتكفيرية المسلحة المدعومة من الخارج، وهو بذلك يخوض هذه الحرب نيابة عن جميع الدول والقوى في العالم ذات المصلحة في هذه المهمة التاريخية، وهو يتلقى الدعم من الجماهير الشعبية، والمؤازرة من العديد من القوى الوطنية في الداخل، ومن المقاومة الوطنية اللبنانية، وكذلك من الدول الصديقة والحليفة، إلا أن ذلك لا ينفي الحاجة إلى مزيد من الإمكانات البشرية، الأمر الذي يستدعي زيادة المشاركة من المقاومة الشعبية.

وفي الوقت نفسه فإن الدولة السورية لا تزال قائمة في المناطق التي تسيطر عليها، فجميع مؤسساتها وأجهزتها تعمل بشكل شبه طبيعي، ويداوم العاملون فيها على أعمالهم ويتقاضون رواتبهم (حتى في المناطق التي خارج سيطرة الدولة)، ويداوم الطلبة في مدارسهم وجامعاتهم ويقدمون امتحاناتهم في أوقاتها، وتؤدى الخدمات الصحية والخدمية الأخرى للسكان الموجودين في هذه المناطق أصلاً، وكذلك للذين نزحوا إليها من المناطق الأخرى.

إلا أن ما يجدر ذكره هو أن دور القوى والأحزاب الوطنية والتقدمية داخل البلاد، ومنها حزبنا وحزب البعث العربي الاشتراكي وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية لم يرتق بعد إلى المستوى المطلوب، سواء من الناحية التنظيمية أم الإعلامية أم الجماهيرية بما يساعد أو يهيئ المناخ الملائم لتعبئة الجماهير للدفاع عن البلاد وتحقيق الوحدة الوطنية في مواجهة الإرهاب والإرهابيين.

حول المعارضة

إن وجود معارضة سياسية في أي بلد هو أمر طبيعي بل وحتميّ، تفترضه متطلبات التعبير عن المصالح المختلفة والمتناقضة للطبقات والفئات الاجتماعية الموجودة في البلد. ويأخذ نشوء هذه المعارضة وتطورها، من خلال الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والمدنية أشكالاً مختلفة حسب طبيعة الأنظمة القائمة فيه، وبما يتفق مع الدساتير والقوانين السائدة. فهي تأخذ مساراً طبيعياً وسلساً في البلدان الديمقراطية، بينما تضطر المعارضة في الأنظمة الشمولية والتي يضعف فيها الهامش الديمقراطي أو ينعدم إلى العمل بشكل سري أو شبه سري، مما يؤدي إلى نشوء بعض الأحزاب والحركات السياسية ونموها بشكل غير طبيعي ومشوه أحياناً.

فمنذ أن جرى حل الأحزاب السياسية رسمياً في سورية بعد قيام الوحدة السورية المصرية عام ،1958 بدأ يخبو المناخ الديمقراطي في البلاد تدريجياً، واستمر التضييق على نشاط الأحزاب بدرجات متفاوتة في الستينيات من القرن الماضي، إلى أن حُصِرَ هذا النشاط رسمياً، بعد الحركة التصحيحية بحزب البعث العربي الاشتراكي، إلى حدٍّ ما بأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية.

على هامش ذلك كانت تعمل أحزاب ومجموعات سياسية معارضة موازية أو منشقة عن الأحزاب الرسمية، على خلفية قومية (البعث الديمقراطي ـ الاتحاد الاشتراكي ـ الاشتراكيين العرب..)، أو ماركسية أو اشتراكية (حزب العمل الشيوعي ـ الحزب الشيوعي (المكتب السياسي)..و غيرها)، إضافة إلى جماعة (الإخوان المسلمون)، وكانت هذه المجموعات تجابَه بالوسائل الأمنية وباعتقال أعضائها سنوات طويلة في السجون، وإحالتهم إلى المحاكم الاستثنائية كمحاكم أمن الدولة أو المحاكم العسكرية.

وجرت بعد عام 2000 بعض المحاولات لإعادة الروح إلى معارضة سياسية داخل البلاد من خلال إقامة عشرات المنتديات السياسية والاجتماعية، وحملات التواقيع على بعض البيانات في مناسبات معينة، وتشكيل مجموعات سياسية حولها (كإعلان دمشق)..وغير ذلك. إلا أنه سرعان ما قُمعت هذه المحاولات وجرى اعتقال العشرات من رموزها. كما سعى البعض إلى تشكيل مجموعات معارضة في الخارج كالتحالف الذي أُسّس بين عبد الحليم خدام و(الإخوان المسلمون) تحت ما سمي (جبهة الخلاص الوطني) عام 2006.

حينما انطلقت الاحتجاجات في مطلع عام 2011 في سورية بدأها شباب لا ينتمي أغلبيتهم إلى أي من التنظيمات السياسية التقليدية، ودون قيادات تاريخية معروفة. كما ولدت مجموعات معارضة تحت تسميات مختلفة (كلجان التنسيق المحلية) و(اتحاد التنسيقيات) لقيادة الحراك الجاري وتنظيمه في المدن والأحياء والبلدات. كما استيقظ العديد من المجموعات السياسية المعارضة والتي سبق أن قضى رموزها سنوات في المعتقلات والسجون، وانطلق العشرات من المثقفين المعارضين ليدخلوا ساحة المعركة التي نشبت في سعي منهم لتبوّؤ مراكز القيادة في الحراك الجاري. وهكذا يمكن القول إن ما يسمى بالمعارضة السورية هو في واقع الحال يضم مجموعات مختلفة ومتناقضة تبدأ من الشباب الذي نزل إلى الشارع في الأيام الأولى رافعاً شعارات تطالب بالحرية والكرامة، إلى شخصيات تحمل أفكاراً ليبرالية وأخرى قومية أو ماركسية، وانتهاء بالجماعات السلفية والتكفيرية التي تحول معظمها أو انضم إلى مجموعات إرهابية مسلحة.

ومع ملاحظة كثرة (القيادات) و(التنظيمات) المعارضة التي برزت في الساحة من البداية وحتى تاريخه، وتنوعها، ورغم الانقسامات والتسميات التي أخذتها، والتبدلات في المواقف والولاءات، وبغضّ النظر عن أن بعض هذه المعارضات عمل ولا يزال داخل البلاد، ما أخذ يطلق عليه المعارضة الداخلية، وبعضها الآخر يعيش خارج الوطن إما منذ سنوات طويلة قبل بداية الأحداث في سورية أو أنه اضطر إلى الخروج لاحقاً، مما سمي بالمعارضة الخارجية، فإن تمايزاً بين اتجاهين أساسيين بين هذه المعارضات بدا واضحاً منذ البداية:

ـ بعض هذه المعارضات سرعان ما طرح شعار (إسقاط النظام بجميع ركائزه ومؤسساته)، وكان يأمل منذ اللحظة الأولى بتدخل عسكري خارجي مستوحياً التجربة الليبية، وراهن هذا الاتجاه ولا يزال يراهن على هذا (المخرج) للأزمة السورية، مطالباً بـ(مناطق آمنة) حيناً و(مناطق عازلة) حيناً آخر، وبـ(عاصفة حزم) لاحقاً، وغير ذلك، في استجداء مخز للتدخل العسكري الخارجي، وسائلاً في كل حين الدول الداعمة له اتخاذ قرارات دولية من مجلس الأمن وفق الفصل السابع تشرعن التدخل العسكري الذي يطمح إليه. وقد رفض هذا الاتجاه باستمرار أي مسار سياسي للصراع يوقف العنف ونزيف الدم ويحفظ وحدة الدولة السورية واستقلالها. كما رفض أي حل لا يؤمّن انتقال السلطة إليه دون قيد أو شرط، في الوقت الذي لم تتورع بعض شخصياته عن إقامة الصلات مع إسرائيل مبشّرة لها بعلاقات ودية معها مستقبلاً؟؟

لقد ارتبطت هذه المعارضة بدول وتحالفات وخاصة على النطاق الإقليمي، سياسياً ومالياً وإعلامياً، وانتقلت بالتبعية من دولة إلى أخرى وفق الصراعات أو التوافقات التي تقوم بين هذه الدول (السعودية وقطر وتركيا)، فتحول بعضها على أساس ذلك من (المجلس الوطني) إلى ما سمي (الائتلاف الوطني) لاحقاً. وكانت الصراعات داخل هذه المعارضات تعكس لا النزعات الذاتية والشخصية (لقياداتها) وحسب، بل والخلافات بين الدول الداعمة لها أيضاً، فضلاً عن الفساد وخاصة المالي المتفشي بينها. وقد ظلت هذه المعارضات تحمّل الدول الخارجية مسؤولية فشلها في تحقيق أهدافها، رغم ما قدمته لها هذه الدول من جميع أنواع الدعم السياسي (تحالف دولي ضم أكثر من ثمانين دولة (ما سمّي أصدقاء الشعب السوري) والمادي (مئات الملايين من الدولارات) والإعلامي (عشرات الفضائيات المحرضة ضد سورية على مدار الساعة) ومن التدريب وأحدث أنواع الأسلحة، وتسهيل عبور عشرات الألوف من المسلحين من شتى بقاع الأرض… الوضع الذي لم تحظ به أي معارضة في أي بلد آخر في العالم.

فضلاً عن ذلك لم تطرح هذه المعارضات – مع رفعها شعار إسقاط النظام بكل رموزه وركائزه.. إلخ – الوسائل والأساليب والإمكانات الذاتية المتوفرة لديها فعلاً، والتي ستتمكن بواسطتها من تحقيق أهدافها – باستثناء المطالبة بالتدخل العسكري الخارجي. كما افتقدت معظم هذه التنظيمات الحياة الديمقراطية بداخلها، وبدلاً عن ذلك سيطرت الشخصنة، وتكفير الآخر وتخوينه.

كما استمرت هذه المعارضات في رفض اعتبار الإرهاب الذي يجتاح المنطقة الخطر الرئيس الذي يتوجب حشد جميع القوى لمحاربته. ولذلك افتقدت برامجها أي إشارة إلى محاربة الإرهاب والعنف والطائفية، بل إن بعضها يؤيد ويدعم المجموعات الإرهابية المسلحة على اختلاف تسمياتها وتشكيلاتها، حتى التابعة لتنظيم القاعدة (كجبهة النصرة)، وما زال معظمها متردداً في إدانة ومحاربة أكثرها تخلفاً ووحشية (داعش).

وافتقدت هذه المعارضات إلى برنامج وطني أو اقتصادي أو اجتماعي واضح يتعلق بمستقبل البلاد، وخاصة لجهة تحرير الجولان، والأراضي العربية المحتلة ومجابهة العدو الصهيوني، بل إن الكثير منها لم يعد يرى أن المعركة مع هذا العدو وإسرائيل والدول الداعمة لها هي المعركة الأساسية بالنسبة للأمة العربية، وهو يسعى لأن يحول (مع الدول الداعمة له) الاتجاه الأساسي للصراع العربي مع الامبريالية والصهيونية إلى صراع آخر عنصري (عربي ـ فارسي) وطائفي (سني ـ شيعي)..كما يتجاهل الدعوة إلى دعم المواطنة وبناء اقتصاد وطني مستقل وضمان قيام دولة علمانية تقوم على الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية…

من جهة أخرى برزت مجموعات وشخصيات معارضة كانت تركز دائماً على الحل السياسي للأزمة السورية، ورفض العنف والأساليب العسكرية في الصراع الدائر، ورفض التدخل العسكري الخارجي، والتمسك بسيادة الدولة السورية واستقلالها ووحدة أراضيها، وضد التحريض الطائفي، ومن هذه المعارضات تعد (هيئة التنسيق الوطني) و(جبهة التحرير والتغيير)، والعديد من الأحزاب الكردية (كالمجلس الوطني الكردي) و(حزب الاتحاد الديمقراطي) وغيرها، وكذلك بعض الأحزاب المرخصة حديثاً.

وفي جميع الأحوال أظهر تطور الأحداث خلال السنوات الخمس الماضية، لا تشتت وتشرذم المعارضات السياسية، وتغلب التناحر والصراع فيما بينها، وضعف قاعدتها الشعبية بشكل عام وحسب، بل وهو الأهم عدم توفر أي سيطرة مباشرة لها على المجموعات العسكرية التي تخوض الحرب ضد الدولة على الأرض.

الإرهاب والعنف والطائفية

ومع تصاعد حدة العنف والتحريض الطائفي ظهرت أكثر المنظمات الإرهابية تطرفاً ووحشية، والتي تحمل أفكاراً رجعية وسلفية تتنافى مع جميع معطيات المنطق والحياة والتطور الإنساني للبشرية. فمن قلب (تنظيم القاعدة) ولدت ما سميت (جبهة النصرة) وفي رحم الأخيرة نمت وترعرعت (الدولة الإسلامية في العراق، أولاً، ثم في العراق والشام) (داعش)، التي سرعان ما استقلت وسيطرت على مساحات واسعة في سورية والعراق، وألغت الحدود التي كانت قد رسمتها اتفاقيات (سايكس بيكو) بعد الحرب العالمية الأولى، ومارست هذه المنظمات أكثر أشكال المجازر بشاعة وهمجية من القتل والذبح والحرق والصلب على نحو لم يسبق له مثيل في بلادنا، وأزالت معالم تراث وحضارة تمتد ألوف السنين عبر التاريخ. والأخطر من كل ذلك حملات التهجير والسبي والإبادة الجماعية لكل من يقع في يدها من الأقليات الدينية والمذهبية من مسيحيين وإزيديين وأكراد ودروز وشيعة وعلوية وإسماعليين وغيرهم دون استثناء الشيوخ والنساء والأطفال. ولم تنجُ حتى الأكثرية السنّية من هذه الفظائع تحت ذرائع التكفير والدعوة لتطبيق مبادئ الشريعة.

إن جذور هذه المنظمات الإرهابية التكفيرية تمتد عميقاً في تاريخنا العربي والإسلامي عقائد وممارسة. فهي تعتمد في دعواتها على الكثير من أفكار بعض السلفيين، مثل الغزالي وابن تيمية وابن القيّم، ولاحقاً محمد بن عبد الوهاب وغيرهم، وتجد في بعض الممارسات التي حدثت في أغوار هذا التاريخ الأمثولة والنموذج الملائم للسير على (هداه). ورأت في أفكار إسلاميين جدد كسيد قطب، وفي الفكر الوهابي بشكل خاص، مستنداً يخدم شعاراتها ومطامحها في إقامة دولة إسلامية، حسب زعمهم. وهيّأ فكر (الإخوان المسلمين) ونشاطهم طوال عقود أوساطاً شعبية مهيأة لمثل هذه الطروحات.

وتشكل البيئة الاجتماعية التي ترعرعت فيها هذه المجموعات الحاضنة الملائمة لها. فهي تمتد غالباً في الأوساط الريفية الأكثر تخلفاً من الناحية الاجتماعية، والتي يسود فيها الجهل والأمية والبطالة والعادات والتقاليد المغرقة في الرجعية. كما أن تصاعد التحريض المذهبي والطائفي في المنطقة عموماً، على خلفية نتائج الحرب العراقية خصوصاً، ساهم إلى حد كبير في توسيع دائرة المستعدّين للانضواء في صفوف هذه المجموعات. ولعب في توسيع هذه الدائرة الكميات الهائلة من الأموال والامتيازات الخيالية التي وظّفت وضخّت من خارج القطر. إن الطائفية والعنف والاستبداد معادلة متكاملة الأطراف، وهي المناخ الأكثر ملاءمة لتصاعد العنف المضاد والإرهاب التكفيري المسلح.

وقد لعبت الظروف التي نشأت في البلدان العربية، في العقود الأخيرة، والتي سبق أن أشرنا إليها آنفاً في معرض الحديث عن عوامل فشل ما سمي (الربيع العربي)، في تقوية الأجواء المساعدة لنمو الأفكار السلفية وانتشارها.

كما أن أجنّة المنظمات الإرهابية كانت قد ولدت برعاية ودعم مباشر من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان، في خضم صراعها ضد الاتحاد السوفييتي في أواسط القرن الماضي، إلا أن هذه المنظمات نمت وشبّت عن الطوق لاحقاً، واستدارت لتعلن الحرب ضد عرّابيها في الدول الغربية الذين تعدهم كفاراً ومعادين للإسلام والمسلمين. وتتحمل العديد من دول المنطقة في الخليج والمملكة السعودية خصوصاً المسؤولية الأساسية في نشر الفكر الوهابي الذي يشكل المرجعية الإيديولوجية لهذه المنظمات من ناحية، وكذلك في تقديم مختلف أنواع الدعم الإعلامي والمادي والعسكري لها من ناحية أخرى. كما أن الولايات المتحدة خصوصاً، والدول الإمبريالية عموماً، لا تزال تحاول الاستفادة من هذه المنظمات الإرهابية لخدمة مآربها وخاصة لإضعاف دول المنطقة وإشاعة الفوضى فيها.

إن محاربة هذه المجموعات الإرهابية والتكفيرية لا يمكن أن تكتفي بالوسائل العسكرية فقط ـ رغم أهمية ذلك. فالحرب ضد الإرهاب معركة فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية في آن معاً،كما أن لها جوانبها وأطرافها الداخلية والإقليمية والدولية في الوقت نفسه، وهي مرتبطة بشكل أو بآخر بالمشروع الإمبريالي للسيطرة على العالم، فالهدف واحد مع اختلاف الوسائل والأدوات.

وعليه، لابد في محاربة الإرهاب من التصدي لمصادره الفكرية أولاً، والمتجلية خاصة في الفكر الوهابي، وإيقاف جميع وسائل نشره الإعلامية، وكذلك في تجفيف منابع هذا الإرهاب، وقطع طرق إمداده المالية والعسكرية والبشرية من قبل الدول الداعمة له.

لقد مر وقت طويل بين اللحظة التي طرحت فيها سورية قضية مكافحة الإرهاب كأولوية في العمل من أجل الوصول إلى حل للصراع القائم في سورية، والمرحلة التي أخذت القناعة تتوفر أكثر فأكثر لدى جميع القوى الدولية والإقليمية بذلك. ويكفي أن نتذكر الخلاف في مؤتمر جنيف 2 حول أولويات الحوار، ورفض المعارضة آنذاك إعطاء محاربة الإرهاب الأولوية في البحث، ثم القرارات التي اتخذت على النطاق الدولي حول محاربة الإرهاب باعتباره مهمة أممية، إلى لحظة الوصول إلى المبادرة الروسية التي دعت إلى إنشاء تحالف دولي وإقليمي لمحاربة المجموعات الإرهابية في سورية يضم حتى بعض الدول التي كانت قد تبنّت ورعت هذه التنظيمات، بعد أن أخذت ألسنة نيران الإرهاب تمتد إلى العديد من دول العالم.

و مما لا شك فيه أن التوصل إلى حل سياسي للحرب في سورية سيلعب من ناحية أخرى الدور الرئيس في القضاء على الإرهاب التكفيري المسلح. كما أن نشر التعليم والثقافة العلمية والفكر العلماني والوعي الاجتماعي، ومحاربة جميع النزعات المذهبية والطائفية، وتوسيع مجالات التصنيع الذي يخفف من دائرة البطالة وخاصة بين الشباب، وإشاعة المناخ الديمقراطي في البلاد، وتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية في كل مناحي الحياة والمجتمع، يمكن أن يساهم إلى حد بعيد في إضعاف البيئة والحاضنة المساعدة على نشر الفكر الإرهابي التكفيري.

الوضع الإقليمي والدولي والأزمة السورية

منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الاشتراكي، رأت الإمبريالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية أنها بانفرادها كقطب واحد على الساحة الدولية أصبح بإمكانها صياغة العالم كله، وخاصة في الشرق الأوسط، بما يؤمّن مصالحها الجيوسياسية والنفطية، فضلاً عن ضمان أمن حليفتها إسرائيل. ولم تكن الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق واحتلالها له منذ نيسان 2003 سوى حلقة أساسية على طريق ما سمي لاحقاً بإعادة رسم خريطة المنطقة وإقامة الشرق الأوسط الجديد، بما يخدم أهدافها المذكورة من جهة، ويخدم محاولة الدول الرأسمالية تصدير أزماتها الداخلية إلى الخارج من خلال شن الحروب الداخلية والإقليمية من جهة أخرى.

إلا أن اللوحة أخذت تتبدل بسرعة في السنوات الأخيرة، وبدأت روسيا تبرز قوة سياسية فعالة في السياسة الدولية، وتشكلت تجمعات سياسية واقتصادية كبرى على النطاق العالمي تضم أكثر من نصف سكان العالم (كمجموعتي البريكس وشنغهاي) اللتين تضمان روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وغيرها، وقد كان موقف روسيا والصين واستخدامهما الفيتو في مجلس الأمن أكثر من مرة، وحيلولتهما بالتالي دون التدخل العسكري ضد سورية دليلاً حاسماً وحازماً على انتهاء سيطرة الولايات المتحدة وحلفائها على الوضع الدولي، كما كان الأمر في المرحلة السابقة.

مما يستنتج معه أنه إذا كانت العوامل والتأثيرات والتدخلات الخارجية قد أدت دوراً هاماً وكبيراً في نشوء الأزمة السورية وتطورها، إلا أنه من جانب آخر أثرت هذه الحرب السورية ذاتها على العديد من جوانب العلاقات الإقليمية والدولية، وخاصة لجهة إنهاء مرحلة سيطرة القطب الأمريكي الواحد على الساحة الدولية.

ومن المؤكد أن الولايات المتحدة ليست راضية عن هذه الأوضاع الجديدة، فقد حاولت من خلال تدخلها في أوكرانيا وإقامة نظام حليف لها ومعاد لروسيا فيها، وكذلك من خلال التضييق الاقتصادي على روسيا بالعمل على تخفيض أسعار النفط العالمي الذي يشكل مورداً رئيسياً للاقتصاد الروسي، ومن خلال السعي لإدخال روسيا في سباق جديد للتسلح بتهديدها مؤخراً بالانسحاب من معاهدة تصفية الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى الموقعة مع الاتحاد السوفييتي السابق في عام ،1987 الضغط على روسيا بغية إضعاف دورها وتأثيرها في السياسة الدولية.

إلا أن ذلك كله لم يبدل موقف روسيا والصين خصوصاً وحلفائهما عموماً من القضية السورية، فموقف الدعم الثابت وتقديم المساعدات السياسية والاقتصادية والعسكرية لسورية من ناحية، والعمل الملموس والجدي مع جميع أطراف الأزمة السورية للتوصل إلى حل سياسي لهذه الأزمة من ناحية أخرى استمر ويستمر دون هوادة.

إن توقيع الاتفاق النووي بين إيران ودول الـ(5+1) الذي تم التوصل إليه في تموز 2015 يشكل نقطة تحول بارزة، لا على النطاق الإقليمي وحسب، بل والدولي أيضاً، فإيران اليوم دولة نووية سلمية معترف بها دولياً، ويفسح لها هذا الاتفاق المجال واسعاً لاستغلال جميع إمكاناتها المالية والنفطية والاقتصادية والتجارية لما فيه رفاهية شعبها وتقدّمه، ولأن تؤدي دوراً أكبر وأكثر أهمية في السياسة الإقليمية والدولية، وكذلك يمكّنها من تقديم المزيد من الدعم والمساندة لحلفائها، وخاصة سورية والمقاومة المناوئة لإسرائيل.

إن فشل ما سمي (الربيع العربي)، وضعف النظام العربي الرسمي، وسقوط (الجامعة العربية) في حمأة ذلك كله، وخاصة من خلال الدور السلبي والتابع الذي اتخذته تجاه الأزمة السورية بتعليق عضوية سورية في الجامعة، والانحياز الكامل إلى مواقف المعارضة الخارجية، وابتعاد مصر الدولة العربية الكبرى عن أداء دور فاعل في الأحداث العربية خلال السنوات الخمس الماضية، بعد غرقها في أوضاعها الداخلية المتأزمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ومخاطر الحرب الأهلية والمنظمات الإرهابية التي تهددها، والآثار الناجمة عن الاحتلال الأمريكي للعراق، وما خلّفه ذلك من صراعات داخلية طائفية وعرقية، وأزمات ليس آخرها احتلال (داعش) لمساحات واسعة من أرض العراق، كل ذلك أتاح الفرصة لدول عربية معينة (السعودية وقطر) لأن تحاول أن تؤدي دوراً أكبر بكثير من حجمها الجيوسياسي، ولأن تسعى إلى السيطرة على مسار الأحداث في المنطقة العربية عموماً وفي سورية بشكل خاص، بما يخدم ويؤمّن مصالحها (خاصة المتعلقة منها بالنفط وتمديد أنابيب الغاز نحو أوربا) ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية ودول غربية أخرى، والذي يستهدف في الوقت نفسه إبعاد شبح انفجار الأوضاع السياسية والاجتماعية المتأزمة في داخلها، فعملت من خلال نشر الفكر الوهابي، ودعم المجموعات الإرهابية المسلحة بالأموال والسلاح والإعلام على تشجيع سعيهم لتهديم الدولة السورية تحت مزاعم الديمقراطية ومحاربة التوسع (الفارسي) و(الشيعي) في المنطقة. ولم تتوان من أجل تحقيق ذلك عن التحالف السري والعلني مع إسرائيل، العدو التاريخي للأمة العربية.

كما أن تركيا رأت هي أيضاً الظروف ملائمة لانبعاث مطامحها العثمانية القديمة، وأطماعها للسيطرة على الاقتصاد السوري والسعي لابتلاعه، كما تبين خلال العقد الأخير من العلاقة معها، فشكلت القاعدة الرئيسية للحرب على سورية، واعتبرت إسقاط النظام في سورية هدفها الأساس، فكانت موئل (المعارضة) بشتى أشكالها وألوانها، وصارت هي موجّهها ومرجعها السياسي والمالي والإعلامي والعسكري.. وكانت حدودها هي الممر الرئيسي لجميع إرهابي العالم، ولتزويد هؤلاء الإرهابيين بمختلف أشكال الدعم اللوجستي والمادي عدة وعتاداً وتسليحاً. وحاولت منذ بدء الحرب السورية جهدها للوصول إلى موقف دولي يؤدي إلى التدخل العسكري المباشر من خلال الدعوة إلى ما يسمى مناطق عازلة أو آمنة.. وتوصلت أخيراً إلى اتفاق مع الولايات المتحدة يتيح للأخيرة استخدام القواعد الجوية التركية لتوجيه ضربات إلى تنظيم (داعش) الإرهابي، مقابل غض الطرف عن توجيهها هي ضربات إلى المسلحين الأكراد شمالي سورية والعراق.

بين الحسم العسكري والحل السياسي… الآفاق والاحتمالات

منذ بدء الأزمة السورية نشأ تصور لدى معظم أطرافها أن الخروج منها يمكن أن يحسم ـ بسرعة ـ بالوسائل الأمنية والعسكرية، فجوبهت المظاهرات الاحتجاجية الأولى بالوسائل الأمنية، كحملات الاعتقال والتعذيب، واستخدام العنف تجاه المتظاهرين، وبضمن ذلك إطلاق الرصاص، كما أن بعض الفئات التي استفادت وراكمت الثروات خلال الحقبة الماضية، رأت في الحرب السورية فرصة ذهبية لمضاعفة ثرواتها من خلال المتاجرة بقوت الشعب ومآسيه، مستغلة ظروف الفساد المستشري، مما يدفعها لمعارضة أي محاولة أو مسعى لإنهاء الحرب والتوصل إلى حل سياسي يحقق لشعبنا مطامحه.

كما أن بعض قوى المعارضة سرعان ما لجأت إلى العنف واستخدام السلاح. وقد اكتُشفت العديد من البؤر المسلحة في بعض المناطق السورية، ومنها مخازن الأسلحة والذخائر، ومعابر لتهريب السلاح والمسلحين بأعداد كبيرة قبل بدء الأزمة في الداخل بوقت طويل، وعملت بعض دول الجوار وخاصة تركيا والأردن وبعض القوى اللبنانية الانعزالية منها والسلفية، على تسهيل عبور هؤلاء المسلحين، وبضمنهم عشرات ألوف الوافدين من شتى بقاع العالم، ونصب آلاف الخيام لهم قبل أن يصلوا، ودعمهم بمختلف أنواع الأسلحة الحديثة والمتطورة.

وبمقدار ما كانت المجموعات الإرهابية المسلحة تحقق بعض (النجاحات) العسكرية في المعارك الدائرة هنا أو هناك، كانت تنتعش لدى أوساط المعارضة الخارجية (الآمال) بإمكانية حسم صراعها مع الدولة السورية، مما كان يحدوها للاستمرار في رفض أي من المساعي السياسية المطروحة كحل للصراع القائم. خاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت عن تشكيل ودعم ما سمي (المعارضة المعتدلة) لإسقاط النظام السوري، وعن تدريب هذه المعارضة وتسليحها، إلا أنه تبين فشل هذه المعارضة التام على أرض الواقع.

لم تتوقف المبادرات السياسية بغية الخروج من الأزمة السورية منذ الأشهر الأولى لاندلاعها، رغم استمرار الصراع العسكري على الأرض.

وقد بُذلت على النطاق العربي والدولي جهود حثيثة من أجل التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، فصدرت القرارات المتتالية من مجلس الأمن الدولي التي تستهدف أساساً وقف العنف والتوصل إلى حل سياسي، وأُرسل المبعوثون العرب (الفريق الدابي) والدوليون لتنفيذ تلك القرارات، من كوفي أنان إلى الأخضر الإبراهيمي إلى ديمستورا.

وكان الحدث الأبرز على الصعيد الدولي عام 2012 اجتماع وزراء خارجية روسيا وأمريكا وتركيا والصين وفرنسا وقطر ودول أخرى، في جنيف بتاريخ 30 حزيران، وصدور بيان (جنيف) الذي تضمّن حزمة من الاقتراحات لحل الأزمة السورية، وقد رأى حزبنا أن بنود هذا البيان بشكل عام تتضمن مقترحات جدية، وإن شاب بعضها الغموض الذي أفسح في المجال أمام تأويلات وتفسيرات متباينة.

وعقد لاحقاً اجتماع ما سمي (جنيف2) في محاولة للخروج من مأزق تفسيرات (جنيف1) إلا أن إصرار ممثلي (الائتلاف) على فهمهم له بأن المقصود منه هو تسليمهم السلطة وحسب، ورفضهم البحث في أولوية مكافحة الإرهاب، حال دون التوصل إلى نتائج ملموسة.

كما فشلت المحاولات التي جرت من أجل الحصول على الضوء الأخضر للقيام بعمل عسكري ضد سورية من قبل مجلس العموم البريطاني والكونغرس الأمريكي، بسبب المعارضة في تلك البلدان للتدخل العسكري، والأزمة الاقتصادية القائمة لديها، فضلاً عن تعقيدات مثل هذا التدخل وصعوباته ومخاطره.

في آب وأيلول عام 2013 أثير ما عرف بـ(الملف الكيماوي) الذي استخدمته الإمبريالية الأمريكية ذريعة للقيام بعدوانها المباشر على سورية.. فتجمعت البوارج الحربية وحاملات الطائرات في المياه الدولية المحاذية لسورية… واستنفرت الولايات المتحدة شركاءها.. وبات العالم على شفا هاوية عميقة لولا التدخل الروسي المتعدد الأشكال، وجرى بمناسبة هذا الملف أول تفاهم بين القطبين الروسي والأمريكي.. ونفذت الحكومة السورية في أيلول عام 2013 القرار الأممي المتعلق بأسلحتها الكيماوية، مؤشراً إلى رغبتها في المساهمة بأي مبادرة لحل المسألة السورية وفق الطرق السياسية.

لقد أوجدت سيطرة (داعش) على مناطق واسعة في سورية والعراق، وانتقال تهديداتها إلى العديد من دول العالم واقعاً جديداً لم يعد بإمكان الدول التي دعمت القوى والمجموعات الإرهابية في البداية تجاهله، وصار لزاماً عليها اتخاذ مواقف وتدابير جديدة تجاهه.

إلا أنه، على الرغم من تشكيل تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة تحت الزعم بمحاربة (داعش) في سورية والعراق، وشن الغارات الجوية من قبل هذا التحالف ضد العديد من مواقع (داعش)، يتبين أن هذه الغارات لا تزال عاجزة عن تحقيق نتائج ملموسة لتحقيق الهدف المعلن، فضلاً عن أن هذه الغارات تتم بمعزل عن القرارات الدولية، وفيها مساس واضح بالسيادة الوطنية للدولة السورية. ولا تزال هذه الدول ترفض التوصل إلى حل سياسي يعتمد على محاربة الإرهاب من ناحية وضمان وحدة سورية واستقلالها وسيادتها من ناحية أخرى.

لقد سعت روسيا منذ بداية الأزمة السورية حتى اليوم، إلى بذل الجهود من أجل التوصل إلى حل سياسي لها، فعقدت في موسكو اللقاءات بين شخصيات ومجموعات معارضة عديدة وممثلي النظام، ولا تزال هذه اللقاءات تتابع من أجل تهيئة الأجواء المناسبة للذهاب إلى مؤتمر جديد في موسكو،3 ومن ثم إلى جنيف3.

إن هذه المساعي والنشاط الروسي تسير من الناحية الواقعية باتجاهين متوازيين ومتكاملين: فروسيا تعتبر أن محاربة الخطر الإرهابي هو المهمة ذات الأولية، مما دفعها لأن تتقدم بشخص الرئيس بوتين في أواخر تموز2015 بالمبادرة نحو اقتراح تشكيل تحالف واسع يضم سورية والسعودية والأردن وتركيا لمحاربة الإرهاب في المنطقة. ومن ناحية أخرى تتقدم بالمبادرة السياسية تلو الأخرى للتوصل إلى حل سياسي في سورية. دون أن تتراجع عن دعمها المتنوع الأشكال، ومنها الدعم العسكري للدولة السورية – الذي تصاعد في الآونة الأخيرة – دفاعاً عن استقلالها وسيادتها ووحدة أراضيها. وهي في ذلك تتفق وتنسّق بشكل جليّ مع دول أخرى وخاصة إيران التي تقدمت أيضاً بمبادرة تهدف إلى التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية.

كما تتواصل مساع دولية أخرى وخاصة من قبل المبعوث الأممي دي مستورا للخروج من الأزمة السورية وفق القرارات المتخذة من قبل مجلس الأمن بهذا الشأن.

إن ازدياد المبادرات من أجل التوصل إلى حل سياسي للقضية السورية بما تعنيه من استعادة سورية لسيادتها على كامل أرضها، يشير بشكل واضح إلى أن القناعة بأن هذا المسار هو الطريق الأفضل والأسلم لهذا الصراع، تتسع أكثر فأكثر، وبشكل متسارع يوماً بعد يوم لدى معظم الأطراف، ومنها الأطراف الإقليمية والدولية.

 وأن العوامل التي تدفع بهذا الاتجاه كثيرة وأهمها:

1ـ صمود الشعب السوري والدولة السورية وجيشها الباسل طوال السنوات الماضية في الحرب التي شُنّت ضده من قبل تحالف دولي واسع، وقوى إرهابية ضمت عشرات الألوف من المسلحين الذي (نفروا) من شتى بقاع الأرض، ومارست خلالها تلك الدول جميع أشكال الحصار والتجويع. وقد ساعد على هذا الصمود الدعمُ اللامحدود والمتنوع الأشكال الذي قدمه للشعب السوري حلفاؤه وأصدقاؤه من روسيا والصين وإيران وغيرها، والمساعدة المباشرة من المقاومة الوطنية اللبنانية المتمثلة في حزب الله، وكذلك في التأييد الواسع من جميع قوى الحرية التقدم في العالم وبشكل خاص من الأحزاب الشيوعية واليسارية.

2 ـ حجم الكارثة الإنسانية التي يرزح تحتها الشعب السوري والتي لم يشهد لها عالمنا مثيلاً في العصر الحديث، وتأثر العديد من الدول وخاصة المجاورة لسورية بالنتائج الاقتصادية والاجتماعية فضلاً عن السياسية لهذه الكارثة. كما أن هذه الكارثة أخذت تضغط بقوة على الدول الأوربية ذاتها من خلال وصول مئات الألوف من المهاجرين إلى أراضيها.

3ـ تصاعد خطر المجموعات الإرهابية المسلحة على الكثير من دول العالم، وبضمنها تلك التي شجعت وموّلت هذه المجموعات.

4 ـ إن عدم التوصل إلى حل سياسي، أو التأخر في التوصل إليه يعني مزيداً من المآسي والدمار، فضلاً عن ازدياد مخاطر تقسيم البلاد، والفوضى الشاملة في داخلها، وتفشّيها إلى الخارج وخاصة إلى دول الجوار.

إن إمكانية التوصل إلى حل سياسي تتوقف أخيراً على عاملين أساسيين، يؤثر كل منهما في الآخر:

ـ التوازن العسكري في الميدان.

ـ وصول الدول الكبرى وخاصة روسيا والولايات المتحدة إلى اتفاق حول مثل هذا الحل.

وفي جميع الأحوال لابد أن يتضمن هذا الحل، كي يضمن له النجاح، مصلحة الشعب السوري في الحفاظ على وحدة بلاده واستقلالها وسيادتها، ومستقبلاً يحقق له الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

موقف الحزب من الأزمة السورية

إن موقف حزبنا من الأزمة الحالية التي لا تزال تستعر في بلادنا انطلق من تحليله وفهمه لطبيعة المرحلة التي تمر بها حركة التحرر الوطني العربية، والتناقض الأساسي فيها والتناقضات الأخرى المرتبطة به، والذي سبق أن حددتها مؤتمراته.

فقد كان حزبنا الشيوعي السوري الموحد قد اعتبر في مؤتمراته السابقة، وخاصة في المؤتمرين العاشر (2006) والحادي عشر (2011) والوثائق الصادرة عنهما أن التناقض بين قوى حركة التحرر الوطني العربية، والمشروع الإمبريالي الصهيوني الرامي إلى الهيمنة على المنطقة، يبرز بوصفه التناقض الأساسي والمركزي الذي تصاغ على أساسه سياستنا وتحالفاتنا..

واعتبر حزبنا أن المهمة الأساسية التي تواجهها بلادنا هي قضية تحرير الأراضي العربية المحتلة وفي مقدمتها الجولان السوري.

وأكدت الوثائق الصادرة عن مؤتمرات الحزب أنه تندمج في هذه المرحلة جميع المهام الوطنية والاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية والثقافية اندماجاً عضوياً، فلابد من السير لتحقيقها معاً في حزمة واحدة، وفي عملية متكاملة وتصاعدية متطورة، وإذا كان للمهام الوطنية أولوية أساسية، فإن تحصين بلادنا أمام الأخطار يتعلق بمدى النجاح في إنجاز المهام الأخرى، وخاصة المتعلقة منها بتحقيق الديمقراطية وتحسين المستوى المعيشي للشعب.

واعتبر الحزب أن الصراع الطبقي الأساسي في البلاد يدور حول مستقبل بلادنا واتجاهات التطور التي سوف تسود فيها، بين الأكثرية الساحقة من العمال والفلاحين والمثقفين والبرجوازية الصغيرة والمتوسطة، وبكلمة جميع القوى التي تؤيد وتدعم عملية الإصلاح والتطوير والتحديث المطلوبة، والقوى التي تتصادم مصالحها مع هذا التطور من البرجوازية الطفيلية، والكمبرادورية وبعض الأوساط من البرجوازية البيروقراطية المتعاونة معها، والتي تراكمت لديها ثروات كبيرة عبر نهب المال العام والفساد.

وأشار الحزب في حينه إلى أن الخطوات التي تحققت باتجاه اقتصاد السوق الحر، وتردّي الأوضاع المعيشية للطبقات الكادحة، وتمركز الرأسمال والاستقطاب الطبقي المتزايد، وإضعاف البنية الإنتاجية الصناعية والزراعية للبلاد، وتزايد تأثير قطاعات الاقتصاد غير الحقيقي، وتفشّي الفساد، ورفع الدعم، وإضعاف دور الدولة والقطاع العام، يرى في كل ذلك توجهاً نحو رأسمالية ريعية نخبوية مناقضة لمصالح الفئات الفقيرة والمتوسطة من أبناء شعبنا، مما يشكل عبئاً كبيراً على السياسة الخارجية للبلاد.

وجاء في الوثائق المذكورة أن الديمقراطية في بلادنا هي خيار إنساني وحاجة موضوعية تفرضها ضرورات التطور والتقدم وتعزيز الوحدة الوطنية، ونصت على أن الديمقراطية تتضمن ثلاثة جوانب أساسية:

أـ أسس بناء الدولة ومؤسساتها وأساليب عملها. وهي تقوم على مبدأ فصل السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأن يكون للمؤسسة التشريعية حق منح الثقة للحكومة ومحاسبتها وحجبها.. ويتم عبرها التداول السلمي للسلطة..

ب ـ الحقوق المدنية والسياسية مثل حرية الرأي والاعتقاد والتعبير، ومساواة المواطنين وتكافؤ الفرص فيما بينهم، وسيادة القانون.. وحق الاجتماع والتظاهر السلمي.. والحصول على محاكمة عادلة..ومنع الاعتقال الكيفي والتعذيب.. والحق في تشكيل الأحزاب والجمعيات المدنية..

ج ـ الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية:بما فيها حق العمل والأجر المتساوي..والسكن والتعليم..ومساواة المرأة وغير ذلك..

كما تضمنت الوثائق المطالبة بإصدار قوانين ديمقراطية عصرية للأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والإعلام، وتعديل قانون الطوارئ، وإلغاء القوانين الاستثنائية ومحكمة أمن الدولة، وحل مشكلة الإحصاء في محافظة الحسكة، والاعتراف بالحقوق الثقافية لأبناء الشعب الكردي.

وقد سبق للحزب أن توجه بتاريخ 6/5/2005 إلى المؤتمر العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي قبيل انعقاده (أي قبل حوالي عشر سنوات من اليوم) بمذكرة تضمنت جملة من الحلقات التي ارتأى أهمية التركيز عليها ومنها (فصل الحزب الحاكم عن الدولة ـ رفع حالة الطوارئ ـ توسيع الانفراج السياسي ـ الإفراج عن المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي ـ إلغاء التمييز القائم بين المواطنين على أساس التمييز الحزبي ـ إلغاء ربط المنظمات المهنية بحزب البعث ـ مكافحة الفساد ونهب مال الدولة ـ صيانة القطاع العام ـ الاهتمام بالتخطيط الاقتصادي ـ استمرار دور الدولة الرعائي..وغير ذلك..

وبتاريخ6/2/2011 أي قبيل اندلاع الأزمة في سورية بأيام توجه الحزب برسالة إلى قيادة الجبهة الوطنية التقدمية أكد خلالها جميع ما سبق أن طرحه سابقاً من إجراءات سياسية مطلوبة فضلاً عن المهام الاقتصادية والاجتماعية التي لابد من اتخاذها لمعالجة الأوضاع في البلاد.

على هذه القاعدة من فهم حزبنا الشيوعي السوري الموحد لطبيعة الصراع الدائر حالياً في المنطقة، وحول وطننا سورية بالذات وضده، فإنه يرى أن التناقض الأساسي يقوم اليوم بين حرية الوطن واستقلاله وسيادته ووحدة أراضيه من جهة، ومن جهة أخرى العدوان الذي تشنه عليه الإمبريالية والصهيونية المتحالفة مع العثمانية الجديدة وقوى الرجعية العربية المتمثلة بالسعودية وقطر ودول خليجية أخرى، وقوى سلفية من الإخوان المسلمين وغيرهم، وتضافرت معها في العدوان أقصى القوى السلفية والجهادية والتكفيرية من شتى أنحاء العالم، التي تسعى إلى الهيمنة عليه وإخضاعه لمصالحها الجيوسياسية والنفطية، ومصالح الكيان الصهيوني.

وعلى ضوء ذلك اتخذ الحزب خلال سنوات الأزمة المواقف المتناسبة مع تطور الأحداث سواء من خلال التقارير المقدمة إلى اللجنة المركزية أو الرسائل الصادرة عن المكتب السياسي.

فحين بدأت الأحداث في محافظة درعا، وتخللتها أعمال عنف في آذار ،2011 نشرنا في صحيفة (النور) تحت عنوان (أحداث مقلقة في درعا) نداء بضرورة الإصغاء إلى مطالب الجماهير، وأن تسود روح الحوار والتهدئة، والابتعاد عن التأجيج وإثارة المشاعر، والممارسات الأمنية والعنف غير المبرر، وذلك حرصاً على الوحدة الوطنية.

إن الحراك الذي بدأ برفع شعارات مطلبيه، جرى استغلاله فيما بعد من قبل فئات متعددة معادية للسياسة الوطنية، كان أهمها (الإخوان المسلمون) وفئات أخرى وجدت في هذا الحراك فرصة لإطلاق شعارات سياسية في شكلها.. لكن مضمونها كان تحريضياً.. يهدف إلى إسقاط النظام… وإثارة البلبلة… واستغلال المشاعر الدينية، مستفيدة من التجمعات، وخاصة في المساجد، في سعي منها لحشد أعداد أكبر من المتظاهرين.

وفي 5/4/2011 حذّر اجتماع اللجنة المركزية للحزب من الفتن الطائفية، داعياً إلى سد الاختراقات التي حدثت في جبهتنا الداخلية، ونبه إلى الحفاظ على الوحدة الوطنية، والانتباه إلى النشاط التخريبي الذي تمارسه الأوساط الظلامية.

وندد الاجتماع بالتدخلات الأمريكية، ودعا إلى تطبيق البرنامج الإصلاحي الذي أطلقه السيد رئيس الجمهورية، والذي تضمن رفع حالة الطوارئ وتعديل الدستور، وإصدار قانون الأحزاب وقانون الإعلام، وحلّ المشكلات الناجمة عن إحصاء 1962لسكان الجزيرة، وطالب الاجتماع بحوار وطني.

وقد حذر حزبنا في اجتماع اللجنة المركزية بتاريخ 11/6/2011 من خطورة وجود السلاح بأيدي المتظاهرين، والانتباه إلى مثيري الفتنة الطائفية، وبعض الأجهزة التي تتمادى في استخدام العنف بهدف إثارة الجماهير. وطالبنا بسرعة إجراء الإصلاحات السياسية والاجتماعية، وإطلاق سراح الموقوفين، وأدان الاجتماع التدخل الخارجي في شؤون سورية، واقترح مجدداً إطلاق حوار وطني شامل…

وتنفيذاً للبيان الذي كان الحزب قد نشره في صحيفة (النور) في نيسان 2011 والذي أكد فيه ضرورة إطلاق حوار وطني شامل يضم جميع القوى السياسية والاجتماعية في البلاد، بادر الحزب إلى إجراء مشاورات مع أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، والقوى الوطنية الأخرى، وممثلين عن الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية، وهيئات المجتمع الأهلي، والشخصيات الثقافية والفكرية، ورجال الدين، وذلك من أجل التحضير لعقد هذا الملتقى، الذي أصبحت الحاجة إليه ماسة أكثر من أي وقت مضى، للتوافق على إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، تهدف إلى الديمقراطية وسيادة القانون.. واستقلال القضاء، وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة ومتوازنة، والقضاء على الفساد، وتحقيق الصمود السوري في وجه مشاريع الاستسلام، وتحرير الجولان.

لكن تشكيل اللجنة العليا للحوار التي كان الرفيق الأمين العام لحزبنا عضواً فيها، بهدف إقامة الحوار الوطني، أوقف مشاورات الحزب. وانصب الاهتمام على نجاح اللقاء التشاوري الذي عقد في 10/7/2011 وشاركت فيه مجموعة من رجال السياسة والفكر من مختلف التوجهات السياسية، وساهم الحزب في حضور اللقاء وفي الحوارات التي جرت خلال جلسات انعقاده، وذكرنا في هذا اللقاء أن حزبنا كان قد حدد جوهر الأزمة الحالية العميقة والمتعددة الجوانب بأنه (التناقض بين الصيغة السياسية التي تدار بها البلاد منذ عدة عقود، ومتطلبات الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يحتاج إليها المجتمع السوري).

كما طالبنا في اللقاء باستمرار الحوار المخلص والبناء بين جميع القوى الوطنية الشريفة ـ بغض النظر عن تباين آرائها واجتهاداتها ـ بغية الاتفاق على برنامج إصلاح جذري وحقيقي، والعمل الجاد والحثيث على تنفيذه ضمن جدول زمني محدد. والتوصل من خلال ذلك إلى صياغة عقد اجتماعي جديد، يضمن قيام دولة ديمقراطية مدنية وعلمانية.وقد أصدر هذا اللقاء التشاوري 18 توصية من ضمنها إلغاء المادة الثامنة من الدستور، إلا أن معظم هذه التوصيات لم تجد طريقها إلى التنفيذ الفعلي، مما ساهم في زيادة تعقيد الأزمة القائمة في البلاد.

نجحت الفئات المرتبطة بالخارج.. والتنظيمات الإسلامية المتطرفة في إثارة الكثيرين في الأرياف والمدن، واستخدمت من أجل تحقيق غاياتها المشاعر الدينية والطائفية… مستفيدة من ممارسات النظام وأخطائه، كما استخدمت المغريات المالية الآتية من ممولي هذه الفئات في دول الخليج. وبدأت عمليات الاغتيال، وتهديم منشآت الدولة، واستخدام الإعلام الخارجي الواسع المرتبط بالإمبريالية وحكام الخليج.

وجّه الحزب رسالتين إلى منظماته في 7 /8 و27/8/2011 تضمنا شرحاً للأوضاع السياسية والأمنية في البلاد، وأكدتا رؤيته للأزمة السورية، وأسبابها السياسية والداخلية والخارجية التي تداخلت مع الأسباب الاقتصادية والاجتماعية، وفق ما ورد سابقاً.

في اجتماع المكتب السياسي بتاريخ18/9/،2011 نبه الحزب إلى أخطار الضغوط السياسية والاقتصادية على البلاد، وذلك بعد فشل مبادرة الجامعة العربية بسبب الضغط الخليجي والقطري بشكل خاص، والتحرك التركي الذي هدف إلى تصعيد المواجهات العسكرية، وإفشال أي حل لا يتوافق مع طموحات أردوغان وأحلامه (الإمبراطورية).

لم يخرج سياق الأزمة بعد ذلك عن السيناريوهات التي أعدّها تحالف دولي معادٍ لسورية، قادته الإمبريالية الأمريكية وورثة الإمبراطوريات الاستعمارية الأوربية وتركيا الأردوغانية وحكام النفط. فقد اشتدت الضغوط السياسية والاقتصادية على سورية، وفشلت مبادرة عنان رغم احتوائها على أسس هامة، وأدى فرض الحصار الاقتصادي الظالم على البلاد، إلى زيادة معاناة الجماهير الشعبية، وصعّدت المجموعات المسلحة عملياتها الإجرامية ضد مواقع الجيش السوري، وزرعت العبوات الناسفة في المدن الرئيسية والعديد من المناطق، واستشهد آلاف المواطنين الأبرياء نتيجة لهذه الأعمال الإرهابية.

وجاء في رسالة سياسية بتاريخ 27/6/2012: (إن موقف حزبنا كان ولا يزال واضحاً تماماً منذ بداية الأزمة في سورية: نحن نطمح إلى دولة مدنية ديمقراطية ذات تعددية سياسية، يتمتع فيها كل مواطن بحق المواطنة والحرية والكرامة والمساواة والرفاهية).

وقدّم الحزب خلال عامي 2011 و2012 رؤيته حول حزمة من المسائل ذات الطابع السياسي والفكري عبر ندوات إعلامية ساهم فيها الأمين العام للحزب وعدد من الرفاق في قيادة الحزب، وكذلك في اجتماعات حزبية، كما ساهمت منظمات الحزب في الحوار الوطني الذي جرى في جميع المحافظات، ونشرت (النور) رؤية الحزب لمسألة التغيير.. والثورة.. والمهام التي يراها على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي..

ففي رسالة سياسية صدرت بتاريخ 23/9/2012 جاء أن (سياسة حزبنا الشيوعي السوري الموحد قامت منذ فترة طويلة على أن الأوضاع الداخلية في سورية تشكل معادلة ثلاثية الجوانب: القضية الوطنية، والقضية الاقتصادية والاجتماعية، والقضية الديمقراطية. وأن هذه الجوانب الثلاثة متداخلة ومترابطة على نحو وثيق، بحيث أن إضعاف أي منها أو إهماله سيؤدي إلى إضعاف الجوانب الأخرى. وأكد حزبنا في جميع وثائقه ومؤتمراته السابقة وخاصة في مؤتمريه العاشر والحادي عشر أن حماية وصيانة الموقف الوطني تطلب تعزيز الوحدة الداخلية في البلاد، التي لا بد لضمانها من تلبية مطالب الجماهير الشعبية الاقتصادية والاجتماعية من ناحية، وإشاعة الديمقراطية في حياة البلاد السياسية من ناحية أخرى. وقد عزز الحزب موقفه هذا باستمرار بالكثير من المطالب الملموسة على الصعد المذكورة كافة.

إننا نرى اليوم أن الخلل بين جوانب هذه المعادلة كان في أساس الأزمة التي تعاني منها البلاد منذ أكثر من سنة ونصف).

وفي الوقت ذاته رأينا أن محاولة بعض المعارضات الخارجية المشبوهة إلباس ثوب (الثورة) على ما جرى ويجري في سورية قد فشلت تماماً، مع توضّح أنه رغم أهمية العوامل الداخلية في الحراك السلمي الذي بدأ في مطلع عام 2011 رافعاً بعض المطالب الاحتجاجية المشروعة، إلا أن عسكرة هذا الحراك وتطييفه واستهداف الدولة السورية بجميع مؤسساتها وبناها التحتية والاقتصادية، وحشد عشرات الألوف من شتى أنحاء الأرض لتدميرها، وتحالف جميع الدول الإمبريالية مع الصهيونية والمطامح العثمانية والرجعية العربية، كشف الأهداف الحقيقية لهذه الحرب الشعواء ضد سورية.

إن توفر استياء شعبي من أوضاع محددة في بلد ما، ومشروعية المطالبة بالإصلاح والتغيير، وحتى انطلاق حراك جماهيري بهذا الهدف، لا يكفي لإسباغ صفة الثورة على هذا الحراك، دون رؤية القوى الحقيقية التي تقف وراء هذا الحراك، وقيادات هذا الحراك، وأهدافها الفعلية منه، وطبيعة التغيير المطلوب، والفئات الاجتماعية والطبقية المستفيدة منه، والقوى الخارجية المحركة والداعمة له.

لقد ساهم الحزب في هذه الفترة بصياغة بعض التشريعات والقوانين والمراسيم الإصلاحية. وفتح نقاشاً موسعاً على صفحات صحيفته (النور) حولها.

وقد اعتبر حزبنا إقرار الدستور الجديد من أهم الخطوات التي تم اتخاذها وخاصة لجهة نصه على مبدأ التعددية السياسية في البلاد، ومساواة الأحزاب في الحياة السياسية على قدم المساواة، وحماية التنوع الثقافي للمجتمع العربي السوري بجميع مكوناته وتعدد روافده، وضمان استقلال المنظمات الشعبية والنقابات المهنية، فضلاً عن تأكيده أهمية ضمان الحريات والمساواة، واعتبار المواطنة مبدأ أساسياً، وسيادة القانون واستقلال القضاء..وغير ذلك.. إلا أنه وفي الوقت نفسه أبدينا أننا كنا نرى أن يتضمن الدستور النص على مدنية الدولة بما يستتبع ذلك من حق جميع المواطنين تولي أي منصب في الدولة، وبضمن ذلك منصب رئيس الجمهورية، بغض النظر عن الدين أو الجنس أو الأصل، وكذلك النص على الحقوق الثقافية للأقليات القومية، وأن غاية النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية هو الوصول إلى الاشتراكية، والنص بشكل أدق على الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وغير ذلك..

كما قيّم الحزب إيجابياً صدور العديد من القوانين (الأحزاب ـ الإعلام ـ الانتخابات وغيرها) رغم إبداء تحفظاته حول بعضها، وخاصة لجهة ضرورة تضمّنها مزيداً من الديمقراطية، إلا أنه أكد مراراً أن صدور هذه القوانين لا يعني شيئاً إذا لم يتم العمل بموجبها، وخاصة فيما يتعلق بنصوص الدستور التي تكفل حقوق المواطن السوري وحريته وأمنه وكرامته من جانب، وواجباته تجاه دولته الوطنية من جانب آخر..

في 6/1/2013 طرح السيد رئيس الجمهورية رؤية لحل الأزمة، تحولت فيما بعد إلى خطة حكومية متكاملة، تضمنت خطوات ملموسة سياسية واجتماعية ركزت على أولوية مواجهة التنظيمات الإرهابية، وحوار وطني وحكومة موسعة تضم جميع القوى السياسية الوطنية، وممثلي المعارضة التي رفضت العدوان على سورية، ونبذت التجييش الطائفي..

وقد لاقت هذه الخطة تأييداً في الداخل، واستحساناً لدى أصدقاء سورية، لكن اشتداد الهجوم الإرهابي الممنهج، والتصعيد الذي مارسته الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها أجهض كل مبادرة سلمية تخرج عن الإطار الذي رسمته هي، والذي كان يهدف إلى استنزاف سورية، وإثارة النعرات الدينية والمناطقية، تمهيداً لكسر حلقة الدول المقاومة لهيمنة الولايات المتحدة والصهيونية على مقدرات دول المنطقة، وإنشاء منطقة إقليمية تابعة للسياسة الأمريكية، تسمح لدولة الاحتلال الصهيونية باختراق النسيج العربي، ووضع حقوق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير.. وتحرير الأراضي العربية المغتصبة، في خانة (المستحيل).

لقد اتضح للجميع أن سورية وشعبها يدفعان ضريبة مقاومتهما للمخطط الإمبريالي الصهيوني، فقد تعرضت بلادنا لإنذارات مبكرة، وتهديدات كانت علنية في بعض الأحيان، وشبه علنية في أحيان أخرى.. (شروط كولن باول).. والضغوط والحصار بعد عملية اغتيال الحريري في لبنان.. والعدوان الإسرائيلي على سورية التي ساندت المقاومة اللبنانية وحزب الله في تصديه للاعتداءات الإسرائيلية.

لذلك غدا جوهر مواقف الحزب في هذه المرحلة التي تبدأ من نقل نشاط داعش والنصرة إلى سورية ابتداء من نيسان 2013 والتي تحول فيها التدخل الأجنبي إلى غزو إرهابي منظم.. مدعوم من التحالف الدولي المعادي لسورية، هو النضال من أجل مواجهة العدوان، والحفاظ على كيان الدولة، ومنع تقسيمها، والعمل على الحفاظ على انسجام مكوناتها الدينية والإثنية المتعددة.

وطرح الحزب العديد من المقترحات لتحقيق صمود البلاد واستمرار مواجهة الغزو الإرهابي من جهة، والعمل على الحوار الوطني الشامل الذي يضم القوى السياسية والمعارضة الوطنية، وممثلي الهيئات الدينية والاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى. لكنه وفي الوقت ذاته وجه سهام النقد إلى السياسات الحكومية التي لم ترتقِ إلى حجم المخاطر التي تتعرض لها سورية.. ولا إلى المعاناة الشديدة التي واجهت جماهير الشعب السوري، التي تعدّ السند الحقيقي للمواجهة.. والصمود، ودعا الحزب إلى تشكيل خلية أزمة لإدارة الاقتصاد حسب متطلبات المواجهة. وقد أشارت بلاغات الحزب ورسائله إلى العديد من نقاط الضعف التي يمكن لأعداء سورية استغلالها لأخذها من الداخل، بعد أن عجزوا عن إركاعها بالعدوان العسكري، ونشرت (النور) في عامي 2013 و2014 وما زالت تنشر حتى اليوم الكثير من المقالات والدراسات والاقتراحات الهادفة إلى توجيه الأنظار إلى مواطن الخلل والضعف في المعالجات الحكومية للأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي اشتدت تداعياتها، وانعكست آثارها على الفئات الفقيرة والمتوسطة، وخاصة على الطبقة العاملة والفلاحين الصغار، وجميع العاملين ومتلقي الأجور، في الوقت الذي برزت فيه فئات مستغلة ومحتكرة، فاسدة، استغلت المصاعب الناشئة عن الحصار الجائر، وراكمت أرباحاً فلكية أمام أعين الحكومة، في حين زادت نسبة المتعطلين عن العمل، وتراجعت الأجور الحقيقية أمام الغلاء الفاحش، وارتفعت نسبة الفقر إلى درجات قياسية…

كذلك نبه الحزب في بياناته ورسائله، وعبر صحيفة (النور) خاصة بعد صدور الدستور الجديد عام 2012 ومازال ينبه إلى أهمية التقيد بالنصوص الدستورية فيما يتعلق بعمليات التوقيف، وطالب بإطلاق سراح الموقوفين على خلفية الأحداث في بداية الأزمة، وجميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي الذين لم يحملوا السلاح، ومنع التعذيب الجسدي، وسرعة إحالة المتهمين إلى المحاكم المختصة، لما تسببه هذه الحالة من قلق، وألم لعائلات الموقوفين، ولخلق مناخ الثقة الذي يسهّل تراجع الكثير من الذين ضللتهم التنظيمات الإرهابية..

وأكد الحزب في نضاله اليومي.. وعبر اتصالات منظمات الحزب في المحافظات والمناطق، وكذلك عبر جريدة (النور)، أكد الحزب أهمية فضح الفكر الإرهابي.. الوهابي.. الرجعي وتجريمه، وعدم الاكتفاء بمواجهة الإرهابيين عسكرياً.

إن طرح الرؤية العلمانية.. الديمقراطية للغد السوري.. وهي محطّ احترام جماهير الشعب السوري وتأييدها، تتناقض تماماً مع الفكر الإرهابي الذي حاولت التنظيمات الإرهابية فرضه في العديد من المناطق، في إساءة منها إلى الإسلام الحقيقي القائم على التسامح، ونبذ الأحقاد، واحترام المشاعر الدينية لأتباع الديانات الأخرى، لذلك كنا ومازلنا نطالب ونعمل من أجل إبعاد الأديان عن التجاذبات السياسية عن طريق الإجراءات الكفيلة بعلمنة الدولة.

وساهم ممثلو الحزب في جميع المواقع التي يعملون فيه بالتعبير عن سياسة الحزب في القضايا التي طرحتها الأزمة، سواء في قيادة الجبهة الوطنية التقدمية أم في الحكومة أم في مجلس الشعب، أم في النقابات العمالية والمنظمات المهنية، بتوضيح العوامل المختلفة للأزمة وشرح موقف الحزب منها للقوى اليسارية والشيوعية العربية والعالمية من خلال الصلات والعلاقات المستمرة معها. كما قدم الحزب العديد من الشهداء الذين سقطوا ضحايا الأعمال الإرهابية.

لقد أكد الحزب، منذ بداية الأزمة، وعبر التغيرات والمنعطفات التي مرت بها، أن حل هذه الأزمة لا يمكن أن يكون عبر المواجهة العسكرية فقط، رغم أن هذه المواجهة حتمية وضرورية في مواجهة المجموعات المسلحة التي تشن عدوانها على البلاد، بل عبر اتخاذ جميع التدابير الأخرى في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية التي تسحب البساط من تحت القوى المعادية وتحول دون استغلال تلك القوى للأرضية والبيئة التي تنجم عن عدم اتخاذ تلك التدابير.

كما أكدنا دائماً أنه لا بد أولاً وآخراً من التوصل إلى حل سياسي لهذه الأزمة الكارثية. ونحن نؤكد هنا أن مثل هذا الحل يجب أن يستند إلى أسس لا يمكن التنازل عن أي منها بأي شكل من الأشكال وهي: (الحفاظ على استقلال البلاد وسيادتها ووحدتها، واعتبار محاربة الإرهاب والقوى السلفية والتكفيرية مهمة ذات أولوية). ويعتبر الحزب أن التوصل إلى هذا الحل ينبغي أن يتم عبر حوار السوريين وتوافقهم على طبيعة المستقبل السوري الذي تريده جماهير شعبنا ديمقراطياً.. علمانياً..يحافظ على النهج الوطني المعادي للإمبريالية والاستعمار الحديث والرجعية. ورفض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية السورية، مع أهمية المشاركة في الجهد الدولي الساعي إلى إنهاء الأزمة سلمياً، والتنسيق في ذلك مع الأصدقاء في روسيا والصين وإيران ودول أخرى تبذل الجهود لإنهاء مآسي الشعب السوري.. وتحافظ على دولته.

ويمكن هنا القول إن مواقف حزبنا بشكل عام نالت احترام الفئات الشعبية والقوى السياسية الوطنية، لأنها لم تفصل بين أهمية التغيير السلمي، وضرورة الحفاظ على الدولة وكيانها وسياستها الوطنية المعادية للإمبريالية الأمريكية والصهيونية والرجعية..

إن اتخاذ السياسات والمواقف الصحيحة.. الملائمة للظروف الراهنة في جميع مراحل الأزمة يمثل جانباً مهماً من عمل الحزب، لكن الجانب الهام الآخر هو نشر هذه المواقف والسياسات، وإيصالها.. والعمل بمقتضاها في منظمات الحزب.. وبين جماهير الشعب السوري، مما يحدونا لأن نذكر بأن مستوى النشاط الفكري والإعلامي والجماهيري للحزب لم يرتق بشكل عام إلى مستوى الموقف السياسي. إن تنفيذ هذه المهمة الملقاة على عاتق منظمات الحزب وأعضائه شابها القصور لأسباب موضوعية تتعلق بالظروف الأمنية في العديد من المدن والمناطق، وأيضاً لأسباب ذاتية ينبغي دراستها ومعالجتها.

التحديات والمهام أمام بلادنا في المرحلة الحالية:

تواجه بلادنا في المرحلة الحالية التي تمر بها،والأزمة الكارثية التي تتعرض لها، جملة من التحديات الكبيرة، مما ينجم عنه العديد من المهام الوطنية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة والمتداخلة بغية مواجهة تلك التحديات، وأهمها:

1ـ اعتبار الدفاع عن الوطن في مجابهة العدوان الإمبريالي الصهيوني العثماني الرجعي من جهة، وصد الهجوم الذي تشنه عليه المجموعات الإرهابية السلفية التكفيرية المسلحة من جهة أخرى، المهمة ذات الأولوية بين جميع المهام الأخرى.

2ـ تهيئة جميع الوسائل والسبل لتحرير الجولان المحتل وإعادة أرضه وأهله إلى حضن الوطن الأم ـ سورية.

3ـ الحفاظ على وحدة الوطن أرضاً وشعباً في مواجهة مخاطر التقسيم التي تتهدده، وضد جميع محاولات التفرقة على أسس طائفية أو مذهبية أو عرقية.

4ـ النضال مع جميع قوى حركة التحرر الوطني العربية ـ باعتبارنا جزءاً منهاـ من أجل استعادة حقوق الشعب العربي الفلسطيني في العودة إلى أرضه وتقرير مصيره عليها وبناء دولته الوطنية المستقلة.

5ـ توطيد التحالف مع جميع الدول والقوى الإقليمية والدولية الحليفة والصديقة لسورية، بما يساعد على تقوية مواقف الدولة السورية ومواقعها، والحفاظ على استقلالها ووحدتها.

6ـ إجراء تغيير عميق في بنية النظام السياسي بغية الانتقال إلى دولة ديمقراطية علمانية وتقدمية تقوم على أسس المواطنة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.

7- تطبيق المبادئ الأساسية التي نص عليها الدستور الحالي بكل حزم وأهمها:

ـ حماية التنوع الثقافي للمجتمع العربي السوري بجميع مكوناته وتعدد روافده.

ـ ضمان استقلالية المنظمات الشعبية والنقابات المهنية.

ـ قيام الاقتصاد الوطني على أساس تنمية النشاط الاقتصادي العام والخاص من خلال الخطط الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الدخل الوطني، وتطوير الإنتاج، وتلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.

ـ اعتبار الحرية حقاً مقدساً، بما يكفل للمواطنين الحرية الشخصية والمحافظة على كرامتهم وأمنهم، وبضمن ذلك حرية الاعتقاد والتعبير والاجتماع والتظاهر السلمي والإضراب عن العمل وتكوين الجمعيات والنقابات..

ـ سيادة القانون أساس الحكم في الدولة. وجميع المواطنين متساوون لديه في الحقوق والواجبات.

8 ـ الفصل التام والواقعي بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.

9- إعطاء أهمية قصوى لمعالجة أوضاع المهجرين داخل البلاد وخارجها من جميع النواحي المادية والمعيشية والسكنية، بما يساعد على عودتهم إلى مساكنهم ومدارسهم وأعمالهم وحياتهم الطبيعية، وخاصة لجهة إعادة وتهيئة البنى التحتية الضرورية لذلك. وزيادة الاهتمام بأوضاع أسر الشهداء وبالجرحى والمعاقين وتقديم الرعاية والخدمات اللازمة لهم.

10ـ إعادة الاعتبار إلى الدور القيادي والرعائي للدولة في مجالات السياسة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد وفق خطة تنمية شاملة ومتوازنة، وإعادة توزيع الدخل الوطني لما فيه مصلحة الفقراء والعاملين بأجر، ورفع المعاناة عن كاهل الجماهير الشعبية التي تتعرض حقوقها للاستلاب من قبل الفئات الرأسمالية الطفيلية.

11ـ اعتبار محاربة الفساد ومفسدين مهمة وطنية من الدرجة الأولى فضلاً عن أنها مهمة اقتصادية واجتماعية وأخلاقية.

12ـ تهيئة جميع عوامل إعادة إعمار البلاد ومستلزماتها، سواء لجهة مصادر التمويل، أم لجهة الطاقة البشرية والخبرات الفنية والعلمية المطلوبة، أم الحصول على التكنولوجيا اللازمة لتحقيق ذلك.

13-اعتبار قضية الحقوق الثقافية للأقليات القومية وخاصة للأكراد، أحد الجوانب الأساسية في تحقيق الديمقراطية وتطبيق مبدأ المواطنة في البلاد.

14-تعديل قانون الأحوال الشخصية على النحو الذي يؤمّن المساواة بين الرجل والمرأة، وبشكل خاص بمنح الجنسية لكل من يولد في سورية من أب أو أم سورية.

15ـ إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي.

إن تحقيق هذه الأهداف يتطلب توحيد جهود جميع القوى الوطنية والخيرة في وطننا. لذلك فإن حزبنا يدعو إلى عقد مؤتمر وطني يضم ممثلي القوى السياسية الوطنية والهيئات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وممثلي المعارضة الوطنية للحوار، بغية التوصل إلى عقد اجتماعي جديد يتفق فيه على تحديد ملامح مستقبل سورية الجديدة وبناء غد مشرق وزاهر لشعبها، والسبل المناسبة لتحقيق ذلك.

المهام الملقاة على عاتق الشيوعيين السوريين

 انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية تجاه الشعب والوطن، فإن الشيوعيين السوريين، يطرحون أمامهم مهمة العمل من أجل تحقيق المهام التالية:

المساهمة في عملية الدفاع عن الوطن ومجابهة العدوان بجميع الوسائل المتوفرة سواء بالعمل السياسي أم تعبئة الجماهير، أم من خلال لجان المقاومة الشعبية، والمشاركة في تنظيم الحياة في المدن والأحياء والبلدات بالتنسيق مع اللجان الموجودة حالياً.

التعبير عن مصالح الجماهير الشعبية الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية والدفاع عنها في جميع أماكن وجود ممثلي الحزب، وفي الأوساط الشعبية، وفضح الممارسات السلبية وغير المسؤولة التي تصدر عن بعض الجهات والأشخاص بحق الوطن والمواطنين.

توطيد وحدة الحزب الفكرية والسياسية والتنظيمية، وإعطاء أهمية قصوى لتحسين مواقعه التنظيمية في جميع المجالات، والاهتمام بشكل خاص بالعمل في أوساط الشباب والنساء. وزيادة الاهتمام بالعمل الفكري والتثقيفي داخل الحزب.

الاهتمام من قبل المنظمات الحزبية بأسر الشهداء والمهجرين والوافدين والجرحى والمعاقين والمساهمة في القضايا الخدمية التطوعية المتعلقة بهم، وخاصة لجهة تقديم المساعدات الإنسانية كالإغاثة الطبية والغذائية.والتنسيق مع قوى أخرى في هذا المجال.

استمرار السعي للتقارب مع الحزب الشيوعي الآخر، ومع جميع الشيوعيين، والقيام بأعمال مشتركة في القضايا الوطنية والاقتصادية والاجتماعية المتفق عليها.

السعي لتحسين العلاقة وتطويرها بين أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، من أجل رفع مستوى أدائها وخاصة في الظروف الحالية.

متابعة الحوار مع الأحزاب المرخصة والتجمعات الوطنية، والفعاليات السياسية والفكرية والثقافية داخل البلاد. والعمل من أجل التعاون والتنسيق مع القوى اليسارية والتقدمية.

استمرار العمل لتحسين العلاقات مع القوى والأحزاب الشيوعية واليسارية العربية والخارجية، باتجاه توحيد نشاطها في مجابهة الهجمة الإمبريالية والصهيونية والإرهابية.

دعم صحيفة الحزب (النور) بجميع أنواع المساعدة سواء المادية (الاشتراكات والتبرعات والإعلانات)، أم بمزيد من المراسلين والكتاب والفنيين.

العمل من أجل قيام حركة شعبية ديمقراطية تقدمية، لمجابهة الفكر التكفيري من ناحية، والفكر الليبرالي في الاقتصاد من ناحية أخرى.

الوطن في خطر. والعدوان عليه شرس ومتعدد الأطراف والغايات، وشعبنا يعاني من كارثة إنسانية لا مثيل لها.

إن الانتصار على قوى العدوان ضد وطننا وشعبنا، يتطلب تضافر جهود جميع القوى الوطنية والتقدمية المخلصة. وإن حزبنا الشيوعي السوري الموحد سيبذل كل إمكاناته للمساهمة مع هذه القوى من أجل إعادة الأمن والسلام إلى ربوع بلادنا الحبيبة، وبناء سورية الجديدة التي يتمتع شعبها بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والعيش الرغيد.

 

العدد 1105 - 01/5/2024