لا حرية للنساء بعيداً عن حرية الرجال

 لا تزال قضية تحرر المرأة من القضايا الأكثر أهمية على مختلف المستويات، مثلما تحتل المرتبة الأولى في أجندات الحركات النسوية ومختلف منظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان، إضافة إلى أنها تأخذ حيّزاً لا بأس به من برامج الأحزاب العلمانية واليسارية ونشاطها، فهي تؤكد أن تحرر المجتمع لا يتمّ إلاّ بتحرر المرأة من كل ما يعيق مساهمتها الفعّالة في مسيرة التنمية والعطاء. وبالتالي فإن تقدم المجتمع مرهون بتقدم جميع أفراده من النساء والرجال.

إن تحرر المرأة من ربقة موروث ثقيل من القيم والأعراف الاجتماعية والدينية التي لا تزال تقيّدها في شرنقتها، لا يمكن تحقيقه أو الوصول إليه إلاّ عبر عدة طرق واتجاهات أهمها:

1- إدراك المرأة لذاتها واحتياجاتها وحقوقها، وأهمية دورها، على المستويين: الشخصي والعام، وهذا ما يتطلب منها وعياً مختلفاً عن السائد اجتماعياً، قائم على رفض واقعها التقليدي أولاً وقبل كل شيء، ومن ثم امتلاك ثقافة وقناعة حقيقية جدية في النظر إلى ذاتها من خلال تلك الثقافة، إضافة إلى تبني هذا الفكر والوعي والثقافة أثناء ممارستها لمهام التربية حين تصبح أمّا، كي لا تعيد إنتاج ذلك الموروث القائم على العنف والتمييز ضدها لصالح الذكر.

2- سعيها من أجل التحرر من تبعيتها المادية والاقتصادية لذكور القبيلة، وذلك من خلال عملها المنتج الذي يعود عليها بالنفع المتعدد المستويات، سواء على المستوى الشخصي، أو على مستوى أسرتها، وبالتالي المجتمع بأسره، بحيث تشعر بأهمية مشاركتها الرجل في تلبية احتياجاتها واحتياجات الأسرة، خصوصاً أننا في زمن ووضع اقتصادي بالغ التعقيد، إذ لم يعد بإمكان الرجل التفرّد والتنطّح لتلك المهام والمسؤوليات بمفرده. لكن وعلى أهمية هذا الجانب في حياة المرأة وفي سعيها باتجاه الحرية، فإن تحررها الاقتصادي لم يرتقِ بها بعد إلى الوضع الذي يؤهلها فعلاً لاتخاذ قرار ولو بسيط في أمر يخصها، بحكم تسلط الرجل وولايته التي أقرّ بها الشرع والمجتمع، مما دفعه للتسلط حتى على إنتاجها المادي كراتبها مثلاً، والتصرّف به وفق ما يراه هو، بدعوى أنها لا تُحسن التصرف أو التدبير، ولنا في العديد من النساء العاملات مثالاً حيّاً نصادفه كل يوم.

 ولا يفوتنا مساهمة المرأة في النشاط الزراعي في الريف بما يعزز ملكية الأسرة، لكن هذا العمل لا يمنح المرأة حرية اقتصادية أو اجتماعية، بحكم الموروث والقيم والأعراف التي تحرمها من حقها حتى في الميراث، مثلما يحرمها القانون حقها في نتاج أسرة قامت على خدمتها وتلبية احتياجاتها زمناً ليس بالقليل، إذا ما تعرّضت للطلاق، إذ تخرج من بيتها خالية الوفاض إلاّ من قهر مزمن حتى لو كانت عاملة خارج البيت بذريعة أنها لا تملك سندات ملكية.

3- أهمية نشر الوعي في المجتمع حول وضع المرأة ودروها في الحياة وضرورة الاعتراف بهذا الدور، للتقليل ما أمكن من حدّة العنف والتمييز الممارس ضدها بسبب تبني ثقافة تقليدية- دينية- قانونية تعزز تبعية المرأة دائماً كما تعزز اضطهادها ودونيتها، وذلك في المناهج التعليمية لكل المراحل، بغية تثبيت حقوق المرأة وتجذيرها في عقول الناشئة والشباب من الجنسين الذين يقع على عاتقهم تغيير المفاهيم والقيم التقليدية السائدة.

4- غير أن كل ما  ذُكر أعلاه لا يمكن الوصول إليه مادام الرجل مثقلاً بقيم ومفاهيم تقليدية تكبّل تطلعاته، إن كان يصبو فعلاً لتحرر المرأة وضرورة مشاركتها له في الحياة بكل تجلياتها وأبعادها. فالرجل في المجتمعات الشرقية ومنها العربية- الإسلامية، شئنا أم أبينا، متخم، إن جاز التعبي،ر بموروث ديني واجتماعي يمنحه كل السلطات مقابل سجن المرأة أبداً في شرنقة التبعية له، وبالتالي نراه إمّا لا يريد، عن قناعة متجذّرة في وعيه ولا وعيه، التخلي عن تلك السلطة التي فوّضته القوامة والولاية على النساء مما يمنحه إحساساً أزلياً بأنه ملك غير متوّج في كل مناحي الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية والقانونية ووو.. إلخ، بحيث يغدو من الصعوبة البالغة جداً إقناعه بحق المرأة في مساواتها أو ضرورة مشاركتها له مسيرة الحياة.

أمّا في حال أراد الرجل واقتنع بأهمية دور المرأة وضرورة مساواتها له في الحقوق والواجبات كإنسانة كاملة الأهلية والوعي الذي يؤهلها لذلك، فإننا نجده غالباً ما يتبنى جميع الأفكار والرؤى الداعمة للمرأة، ويعمل جاهداً على محاولة نشرها في المجتمع من خلال مناقشاته المطوّلة سواء في أوساط النساء خاصة الناشطات في مجال حقوق المرأة، أو في أوساط المثقفين أمثاله، وكذلك في تعامله مع أخواته وزميلاته وصديقاته. لكن، حين تقتضي الضرورة والواقع منه اتخاذ موقف جديّ وحقيقي، تراه يتخبط حيناً في اتخاذ قرار جريء وحاسم نتيجة تقييده بالموروث الذي حمّلته إياه التربية على كل المستويات، وحيناً آخر يتخاذل ويتراجع عن جميع آرائه وطروحه السابقة بذريعة أنه لا يستطيع الخروج على قيم المجتمع، لأنه إن فعل فسيغدو منبوذاً فاقداً الرجولة، وهو ولا شك صادق في هذا إلى حدٍّ ما، وذلك إمّا لأن قناعاته الأولى عن تحرر المرأة ومساواتها، غير متجذّرة ولا أصيلة في فكره ولا وعيه، وبالتالي كانت مجرد تنطّح ظاهري يتيح له التميّز والظهور ليس غير، أو لأنه عاجز وخائف من مواجهة المجتمع بمختلف سلطاته وقيمه، رغم صدق قناعاته تجاه مسألة تحرر المرأة ومساواتها وحقوقها.

من كل ما تقدم، نجد أن كل الجهود المبذولة في السعي لتحرر المرأة ووصولها إلى حقوقها المهدورة كافة، يجب أن تتوجه بالقدر ذاته، بل وأكثر، إلى تحرير الرجل المُثقل والمقيّد بموروث ينبذه إذا ما تجرأ عليه في تعامله مع مثل تلك القضايا، وهذا ما هو مطلوب من الدولة والمجتمع المدني بكل هيئاته ومؤسساته. غير أن ذلك لا يمكن الوصول إليه إلاّ عبر تبني الأجيال الجديدة من الشباب ثقافة حقيقية متجذّرة وأصيلة في نظرتها إلى قضايا المرأة ومشاكلها، وضرورة مساواتها للرجل في الحقوق والواجبات، وقبل كل هذا، تبني ثقافة تربوية جريئة وفعّالة مغايرة للسائد من حيث تخليها عن جميع القيم والعادات البالية التي تعزز التمييز والعنف ضدّ النساء في المجتمع الذي لا يمكنه الوصول إلى تحرره إلاّ بتحرر جنسيه معاً (المرأة والرجل).

العدد 1104 - 24/4/2024