محمد عيد… شهادة الصدق أبعدته عن المدرسة إلى أرصفة دمشق

متحدياً الحرب والقضاء..

 شاب صغير بألبسة مهترئة ومغبرة، يتخذ من أحد أرصفة (أرقى) مناطق العاصمة مكاناً له ولبسطته المتواضعة، التي اتخذ منها منطلقاً نحو حلمه في التخلص من الظلم والقهر الذي يعيشه في هذه الحياة، وذلك من خلال قلم وورقة بيضاء يفرغ عليها ما يخطر بباله، ليتمثل بعدها بوجه بشري، أو بمنظر طبيعي، معتبراً هذه (البسطة) سفينة الأحلام للانطلاق بموهبته نحو مستقبل مشرق في الرسم، وهي ليست كسفينة الأحلام لنظرائه الشباب المتوجهين نحو أوربا.

(أنا صار لي سنة قاعد هون، ونزل مطر وتلج ولسه قاعد، لأني تعودت وما بقى تفرق معي، بس هلق خايف ع الرسمات)، كلمات نطقها محمد متهكماً، ليبرر عدم اكتراثه بتقلبات الطقس التي أصبحت بالنسبة له شيئاً عادياً، فهو يمضي 12 ساعة في فصل الصيف تحت أشعة الشمس، بينما هناك أطفال من عمره يجلسون في منازلهم مترفهين ببرودة المكيف، أما فصل الشتاء فيرى فيه الناس الخير ورحمة من السماء بنزول المطر، ولكن من وجهة نظر محمد فإن الأمطار تسبب له القلق خوفاً على رسماته التي يخشى عليها من التلف.

يقضي (محمد عيد)، البالغ من العمر 16 عاماً، يومه جالساً خلف سفينة الأحلام، يمارس موهبة الرسم التي اكتشفها به أصدقاؤه في المدرسة، قبل أن يغادرها إلى الأبد، محملاً قلمه معاناته التي تولدت بعد أن انفصل والداه، وغادر أخواه المنزل هرباً من ظلم زوجة أبيهم، ليفترشوا هم أيضاً حدائق المدينة، ويبيعوا ما تيسر لهم على إشارات المرور.

حلم محمد لم يقتصر على الرسم فقط، بل تعدّاه إلى الاعتماد على نفسه في تعلم القراءة والكتابة، باستغلال عدة ساعات من يومه في رسم كلمات من قصة أطفال على دفتره، فهو ينقل الكلمات فقط دون أن يعلم ما تحمله من معان، وهذا ما عبر عنه بقوله: (بعرف أكتب بس، وما بعرف أقرأ، بهجّي الكلمة تهجاية وفي كتير كلمات ما بعرف شو بتعني، لأني ما كمّلت تعليمي، وتركت المدرسة لما كنت صف سابع).

في مجتمعنا الشرقي، هناك أشخاص يمتهنون (حلف اليمين الكاذب)، على الرغم من معرفتهم مدى خطورة هذا الأمر، فأهم الأسباب التي أوصلت محمد عيد إلى ما هو عليه، أنه لم يكن مثل هؤلاء الأشخاص، وتحدّيه التهديدات التي أطلقتها زوجة أبيه، بحرمانه من أبسط حقوقه في التعلم والعيش الكريم، (خالتي مرت أبي، وطبعاً برضا أبي، خلّوني أترك المدرسة أنا وأختي، لأنو رفضنا نحلف يمين كذب بالمحكمة لصالح مرت أبي، والشكوى رفعتها أمي بعدما خالتي مرت أبي حرقت أختي، وعذّبتها)، بضع كلمات نطقها محمد بحزن وعيناه تملأهما الدموع، وصف بها ظلم المجتمع لمن ينطق بالصدق.

رغم ظلمه من أهله، إلا أن الحياة عوّضته بأناس يخافون عليه، ويهتمون بطعامه طوال ساعات يومه الطويلة، فبالقرب من مكان وقوف محمد، توجد مؤسسة مالية خاصة، يعمل فيها أشخاص لم ينسوا نصيب محمد عيد من وجبة الغداء يومياً، إضافة إلى أنهم يخففون عنه مشقة حمل (صندوق سفينة الأحلام) يومياً إلى منزله في منطقة دمر، بحفظه عندهم لصباح اليوم التالي.

قد لا تكون حالة محمد عيد الوحيدة، فهناك الكثير من الأطفال المنتشرين هنا وهناك، لديهم مواهب كبيرة، ولكن طغت عليها معاناتهم من هذه الحياة الصعبة، وهم بحاجة إلى من يكتشف هذه المواهب ويستثمرها، ليحافظ على موهبة الطفل من التلاشي خلف زحام الحياة. وتساءل مواطنون، عن ماهية الدور الذي تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية، وما هي الخدمات التي تقدمها الوزارة لمثل هؤلاء الأطفال؟ وكيف يمكن أن تحافظ عليهم من استغلال ضعاف النفوس؟!

العدد 1105 - 01/5/2024