وصار عندنا كاميرات!

بعض العواذل يعمدون باستمرار إلى اتهام الحكومة بالتقصير في مواكبة العصر، والحقيقة أني أرى الأمر على عكس ذلك، إذ تبدو لي أنها حكومة على آخر موضة، وهي تحرص على اقتناء آخر صيحات التكنولوجيا والاختراعات، خصوصاً تلك التي لا تليق بنا، مثل الصرافات وأجهزة البصمة وكاميرات المراقبة، وغيرها من صرعات لم نكن نراها قبل سنوات إلا في الأفلام الأجنبية، ولم نتخيل أبداً أننا سنعيش لنراها مسلطة فوق رؤوسنا، وإذا أردتم الوضوح أكثر ، فأنا أقصد بالتحديد تلك الكاميرات الخبيثة التي صارت فجأة ضرورة من ضرورات العمل لدى شركات تفتقر إلى كثير من الخدمات التي تسهل عمل المواطن والموظف معاً، وخصصوا لها اعتماداً مالياً رغم سياسة الترشيد المتبعة التي وصلت إلى درجة بات فيها الموظف غير قادر على الحصول على قلم أزرق جديد إلا بعد تسليم القلم الفارغ! ليس هذا فقط، بل إن الصابونة صارت تقسم نصفين قبل وضعها على المغسلة! صدقوني هذا من الواقع وليس من كتاب البخلاء للجاحظ… المهم صار عندهم كاميرات كلفت الشركة ما كلفت ولكن كل شيء يرخص في سبيل الأمن والأمانة، أما الأمن فهو ما ستوفره الكاميرا من حماية ضد العدو الخارجي، يعني مثلاً واحد حرامي غبي يقتحم الشركات من أبوابها، أو عدو داخلي مثل موظفة تهرب من الشركة قبل نهاية الدوام لأسباب خطيرة كإحضار ابنها من الروضة أو تأمين وسيلة مواصلات قبل أن يشتد الازدحام، أما الأمانة فهي منع الموظف من تلقي الرشوة، وهكذا ترون كم هي ضروية تلك الكاميرات، لكن المشكلة التي لم يفكروا بها أنه في حالة حصول حادث سرقة أو اقتحام، فإن الكاميرا تكون – ويا للمصادفة – معطلة! أما الكاميرات المخصصة لمراقبة الموظفين، فهي تغمض عينها بحسب موقع الموظف ودرجة نفوذه على من حوله، وفي أغلب الأحيان يرفض هؤلاء وضع كاميرات في مكاتبهم لأسباب وجيهة، إحدى الموظفات رفضت لأنها محجبة ولا يهون عليها أن يتملى أحد في محاسنها دون أن تدري، وموظف آخر يتحسس من الكاميرات لأنها تشعره بالارتباك أثناء عمله، وآخر يحب أن ينقضّ على فطوره ( يا قاتل يا مقتول!) فلا يريد متطفلين أو شهوداً على مجزرة الفول والفتة ولا على غزوة الهمبرغر والنقانق، وكذلك زميلته التي لا تجد الوقت في بيتها لطلي وجهها بالمكياج، فهي مضطرة للمباشرة في مهمتها التجميلية على سطح المكتب، ولا يناسبها أن يرى الحساد أو المعجبون ذلك،فيتوهمون أن جمالها صناعي وليس رباني! وبالنتيجة يستجاب لطلبات أولئك جميعاً، فتلغى أغلب الكاميرات، أو يجري تحويل أنظارها نحو الحائط لتراقب الصراصير العابرة والعناكب التي عششت هناك بكل أمان، وحتى لو بقيت الكاميرا، فإنك لن تجد الموظف المسؤول عنها هناك لأنه سرعان ما يمل فيقول لك : ( من راقب الناس مات هماً ) طبعاً مع بعض الاستثناءات، إذ إني مرة وأثناء انتظار دوري في إحدى المؤسسات، رأيت الموظف يسحب المراجع من يده نحو زاوية ( آمنة ) وهو يهمس بلطف : هنا التفاهم أفضل إذ لا يوجد كاميرا… وطبعاً هذا موظف بسيط من جماعة الليرات، لأن جماعة الملايين لا يضطرون لمد أيديهم في المكاتب! وفي مؤسسة أخرى كان بعض الموظفين والموظفات يثرثرون منتقدين مديرهم كما جرت العادة في كل مؤسسة، وختم أحدهم الحديث بالضحك مشيراً إلى الكاميرا وهو يقول : ( الحمد لله أن الكاميرا تراقب فقط ولا تنقل أحاديثنا أيضاً )، مع ذلك لا يخلو وجودها من فائدة لا يمكن إنكارها، فقد بلغني أن الكاميرا كان لها دور فعال في حادث خطير وقع في إحدى الدوائر الحكومية، وذلك حين فقدت مصاصة المتة الخاصة بأحد الموظفين، فقامت الدنيا وقعدت، وكادت تتحول إلى فتنة طائفية، لولا الكاميرا التي كشفت المعتدي الأثيم وتبين أنه مجرم عتيق له سوابق خطيرة في اختطاف المصاصات والملاعق وأباريق الشاي أحياناً.

العدد 1107 - 22/5/2024