تحت كل شجرة.. وأمام كل باب

يقال ليس من الضروري أن تعيش الوحوش الكاسرة في الوديان البعيدة والغابات الكثيفة، بل ربما نجد بيننا من هم بمستوى الوحوش أو أكثر.

أليست الخيانة شكلاً من أشكال التوحش؟

أليس الكذب والنفاق والدجل، والتغاضي والتعامي عن رؤية الشرارات الصغيرة التي قد تحرق الغابة شكلاً من اشكال الافتراس والقتل البطيء؟

وقد تعيش الأفاعي والعقارب والحشرات السامة في حدائقنا التي نسقيها ونرعاها كل صباح ونحن لا ندري بها.

وقد يربي الإنسان كلباً، فيجده ذئباً متوحشاً حين يكبر ويشتد عوده.

وتحضرني حكاية عجيبة، كانت جدتي قد روتها لي، وعشت قسماً منها في منزلنا القديم، والقسم الآخر لا شك أنه آت ذات يوم.

والحكاية كانت عن (الغولة)..

وكلمة الغولة، أو الغول تعني كل ما أخذ الإنسان من حيث لا يدري فأهلكه، وجمعها أغوال وغيلان. وتزعم العرب إنه نوع من الشياطين تظهر للناس في الفلاة فتتلوّن لهم في صور شتى، و(تغولهم)، أي تضللهم وتهلكهم.

تقول الحكاية:

ذات ليلة، من ليالي الشتاء، سمعنا صوتاً آتياً من خلف الجبل، فاستيقظنا أنا وجدتي مرعوبين، وحين سألت الجدة عن هذا الصوت تمالكت أعصابها وقالت:

لا تخف.. إنه صوت ذئب جائع.

فقلت: جدتي أنا أعرف صوت الذئاب وعواءها. هذا الصوت غريب عن جميع الأصوات التي تعيش بقربنا.

فأجابت: ربما كان صوت الغولة.

فتذكرت فجأة حديث أحد رفاقي عن الغولة، وعن أسنانها الحادة، وشعرها الأشعث الطويل.

نهضت مقترباً من النافذة، ورحت أتامل الثلج الأبيض وهو يتساقط بكثافة وكأنه يسرع لإخفاء جرائم كثيرة ارتكبت في حق كرامة الطبيعة وحرية الإنسان.

وكان منزلنا قديماً، بعيداً عن القرية، ملاصقاً لسفوح الجبل الكبير، ولا أدري كيف راح عقلي يطرح على روحي أسئلة مرة: لماذا نحن فقراء؟ لماذا لا يوجد عندنا مدفأة على المازوت بدلاً من هذه المدفأة التي تشخر كجدتي العجوز؟ ثم لماذا لم يكن بيتنا هذا قريباً من القرية؟ ألهذا الحد كان جدي يحب العزلة ويكره الناس؟!

وشيء آخر ربما كان أكثر أهمية من كل ذلك:

لماذا صنعت نوافذنا وأبوابنا من الخشب وصفائح الزنك الرقيق؟ ألم يحسب جدنا حساباً لتلك الذئاب الجائعة، وربما للغولة المتوحشة؟!

وفجأة.. قطع حبل أسئلتي صرخة مرعبة متوحشة قرب الباب افتحوا.. افتحوا الباب..

نهضت الجدة مرتبكة بعض الشيء، أشعلت القنديل ثم اقتربت من الباب وهي تقول:

اذهبي من هنا يا ملعونة الوالدين.

فردت الغولة وهي تضحك:

هذا صوتك يا أم أسعد، لقد أكلنا زوجك في الماضي بعد أن قتل جدتنا الكبيرة، واليوم جئنا لنأكلك مع حفيدك!

كانت جدتي أثناء ذلك قد أشعلت بابور الكاز ووضعت على ناره الزرقاء خنجراً طويل النصل، كان جدي يحمله أينما ذهب.

كان جدي قوياً، ويقال إنه قتل ذات ليلة غولة كبيرة، جاءت من سفوح الجبل القريب، غرس جدي نصل خنجره في صدرها، فصرخت الغولة صرخة مدوية، ثم هربت إلى الجبل، لكن جدي تبعها لأن الخنجر بقي عالقاً في جسدها بين اللحم والعظام.. تعارك الجد مع الغولة عند أطراف الجبل، ولم يستسلم حتى استعاد خنجره بعد أن قتل تلك الغولة.

وقال لي رفيقي إن والده مدرس التاريخ يعرف جدي جيداً، وقد أكد له هذه القصة. ويتابع مدرس التاريخ قائلاً لرفيقي: إن غولة أخرى جاءت إلى بلادنا ذات فصل من فصول السنة قادمة من أماكن مجهولة، ثم بدأت تهاجم الماشية والرعاة وتفترس كل من يعترض طريقها، ولم تكن تكتفي بما تأكله. بل كانت تقتل بقية القطيع، وتقبض على الرعاة وتشوه وجوههم وأجسادهم بيد أن سكان القرية تعاونوا واتحدوا واستطاعوا قتلها بعد أن تركت جرحاً قاتلاً في ظهر جدي.

إنما غولة أخرى ظهرت مرة أخرى في الجبل أشد فتكاً وشراسة، وقد أحبت بلادنا فأخذت لنفسها مكاناً على سفوح الجبل، وداخل مغاراته المظلمة، ويقال إن غولاً جاء ذات ليلة دامسة والتقى الغولة فأعجب بها وتزوجها، ثم بدأ نسلهما يتكاثر، ولكن فيما بعد جاء أكثر من غولة وغول من بلاد بعيدة، لا أصل لهم ولا فصل، أسسوا قبيلة متوحشة أخذ أفرادها يهاجمون القرى والناس دون رحمة.

لا أعرف تماماً كم مضى من الوقت وجدتي جالسة قرب الباب تنتظر رأس الغولة وفي يدها الخنجر وقد أصبح نصله متوهجاً، لكن الذي حدث لم يكن متوقعاً.

فجأة انخلعت النافذة الخشبية وقفز منها شبح طويل يكسو جسمه شعر، انقض على جدتي وحاول خنقها.. لكن الجدة استدارت بصعوبة وغرست الخنجر في الجسد المتوحش، سمعنا بعد ذلك احتراق الشعر وشممنا رائحته الكريهة وما لبث الجسد الضخم أن سقط على الأرض مطلقاً صرخة مرعبة.

قالت الجدة وهي تسحب الخنجر من الجسد:

لقد ماتت!

إنما تذكرت في تلك اللحظة أن غولة أخرى ربما تكون الآن في طريقها إلينا، غولة أشد فتكاً وأكثر شراسة.

لكن الشيء الذي كنت متأكداً منه أكثر من أي شيء أخر ولا أزال هو أن نصالاً طويلة وكثيرة ومتوهجة كالجمر ستكون بانتظارها تحت كل شجرة، وأمام كل باب.

العدد 1107 - 22/5/2024