يغتال العصافير؟!

من يغتال الورد فوق سرير الندى، وهو ينهض مع فجر الصلاة للحياة؟!

ومن يحرق العصافير في مهدها، وهي نشوى بمعناها الطفولي فوق وسادات من عشب الوطن، تحلم في مهادها بما يشبه المستحيل في أمل قادم من جنون المرارات، ومكابدات الرياح الموحشة، التي تهب على طفولة الزعتر والبرتقال والزيتون، وكأنها نقمة الغربان.. غربان الشر على جماليات فلكنا الكوني الحزين، وغضبة عشاق الليل والعتمة على تلك الصباحات البرتقالية، وهي تسرح بقطعان غمامها الأرجواني الندي بين صخب طيور بحر يافا وحيفا وعكا، وهضاب الجليل والجولان، والكرمل المسكون بوجده الحارق لنسيم عشاقه الغائبين، والعابرين مع نسمات المساء البليلة من أطراف الدنيا، ولهاث العواصم البعيدة، وهي تقذفهم من شتات إلى شتات، ومن منفى إلى منفى، لكنهم.. على ضراوة ذهابهم البعيد، وغربتهم المتعاقبة، بعد غربات عديدة، ومديدة الغياب والوجع القاتل، فثمة خيط من الوجد لا تنفصم عراه أبداً بين العابرين إلى صقيع الغياب البعيد، والثرى الذي يمد خطاه إليهم إلى حيث يعبرون، ويرحلون! يشدّهم بلهف وحنو لكي يرجعوا، على صدى ذلك النشيد المدوي: (عائدون.. عائدون) و.. (سنرجع يوماً إلى حينا.. هكذا خبرني العندليب)، وما شابه من تلك الأناشيد المدوية، التي ستظل شعارنا، وقدرنا، ومصيرنا، حتى يوم العودة المحتم، الذي مهما طال غيابه سيجيء، ومهما طال زمانه، فإن بشائره الملوحة بمناديل حضورها على امتداد أفقها الأرجواني الشاسع تهتف بضراوة وجدها: (راجعون.. راجعون.. راجعون)! وكلما دوى النشيد أكثر قرباً منا، وأندى طلاوة من رجع آذان الفجر، وترانيم أجراس المهد وبيت لحم، وهديل الحمام على قباب الأقصى، قلنا: إنه الوعد القادم قلب قوسين وأدنى)!

وكلما اقترب وعد اللقاء خطوة، ونظرة، وقبلة، وازدادت تلويحة الأيدي.. صخباً، ولهفة عارمة، وتوتراً هادراً، ازداد الأمل/ المستحيل اقتراباً من واقع التمنيات، والحقيقة، وازدادت غربان الشر ضراوة وشراسة، وهمجية. سوف يحرقون الأخضر واليابس أمام الخطا الزاحفة بضراوة وجدها لثراها وتراب وطنها، وأرضها السليبة، الرازحة تحت سطوة أبشع عدوان وحشي في تاريخ البشرية، ستعيث الغربان فساداً أعتى في الأرض، وطغمة عصبة الشيطان، أمام آخر فرصة لها في الحياة: ستقتل، وتذبح، وتنفي روح الحياة عن عشاق الحياة، ومحبيها، ستلعن الأشجار التي تغني وطنها وشعبها، وتغتال الأنهار الصاخبة بغنائها المدوي للأرض والإنسان، وتقتلع طفولة العصافير من مهادها وهي تثرثر للبرتقال، والكباد، والزعتر والياسمين، والدفلى، سيخرسون الأصوات برصاص حقدهم، وهمجيتهم اليائسة، فإذا بالدوي يصدح أكثر، وبالنشيد يذهب أعمق في الآفاق، وتنهض طفولة العشب من الركام، والموت، والجراح تهتف:

(راجعون.. عائدون.. عائدون..)! عندئذ فقط، يدرك شتات يهوذا أنهم عابرون وراحلون، وخائفون وذاهبون، وتافهون، ومنسيون، وانهم ملعونون إلى أبد الأبد، بما جنت أيديهم، وبما يمكرون.. والمكر السيء يحيق بأهله، مكراً أشد ضراوة ووحشة!

اقتلوا الورد.. فحدائق ورد أخرى ستنهض من طفولة الورد البهية، واغتالوا العصافير، من الجحيم إلى الجحيم، وانفشوا ريش نهايتكم، فثمة عاصفة الحق والثأر والنصر قادمة، فاحذروها أيها العابرون!

العدد 1107 - 22/5/2024