صناعة العقول والقلوب

عجز العلماء والمخترعون حتى الآن، رغم التقدّم الصناعي والثقافي والعلمي في قرن الأزمات والحروب والكوارث الطبيعية والبشرية، عن صناعة قوالب خاصة للقلوب البشرية والعقول. ويمكن للمحترفين أن يغسلوا العقول.. لكن أي حدّاد أو صوَّاج أو ميكانيكي ماهر لن يكون قادراً على صناعة عقل أو قلب..! يمكن أن يقوم هؤلاء ب  (تحديث) في الخلايا من خلال زرع جينات الشك والترغيب والوعود، وتقديم الإغراءات السلطانية والوعود الكاذبة بتوفير حياة أفضل.. حياة ترفيهية وتمليك المعامل والسيارات الفارهة والهدايا الثمينة.

ومن النتائج الأولية البارزة للأزمة السورية تبيّن أن عقولاً عديدة كان مالكوها، يعتبرون أنفسهم من أصحاب المشورة والقدوة ورجاحة الرأي وصوابه، ويوصفون بأنهم من روَّاد (الوطنية البيضاء)، علماً أنَّهم كانوا من أكثر المصفقين و(المزورين للحقائق)، وقد تورَّمت أكفّهم وما زالوا يعالجونها حتى اليوم  بالمراهم والحُقن، من التمزقات والتورّمات لإزالة البقع الحُمر والزُرق من شدة التصفيق وحرارة الإيمان والحب المفعم بالعسل المغشوش وتمسيح الجوخ والبكاء والحنيّة والدموع المدرارة..! وبيَّنت الأزمة  أن (سحبهم) من بيئتهم ومن صفوف الأدباء والكتاب والمثقفين أسهل بكثير من سحب الشعرة من العجين.. ولا نريد أن نسجّل أسماء عشرات الهاربين إلى بلاد (العم سام وحان والذباب الأزرق وجُزر النار والسادة والعبيد..)، والجلوس وراء المكاتب الفخمة في بلاد (الحجيج والمجيج) والنفط والغاز.

إنَّ القلوب الشفوقة الدافئة الراقصة على شظايا المودة، التي تقوم بتنقية الدماء وضخّها في عروق نظيفة خالية من الشحوم، والتي تعزف نبضاتها نشيد الصباحات الندية والحب والوطن الجريح، لا يمكن غسلها إلاَّ بالعطر وحمايتها بالياسمين والورد الجوري المروي بدموع الأمهات الثكالى.. المزروعة في تربة سورية التي رواها الشهداء بدمائهم… ولا يمكن اقتلاعها من تربتها فجذورها عميقة، ثابتة، ومتمسّكة بهذه التربة.

هناك علاقة بين القلب والعقل.. وعلاقة بين التربة والماء.. وبين الماضي والحاضر.. ولا يمكن في يوم من الأيام أن يتخلّى العقل عن القلب.. وإذا حدث ذلك، فهناك خلل في علاقة الجزء بالكل والروح بالجسد.. وخلل في فلسفة الحياة التي تبدأ من مقدمات صحيحة وتنتهي بنتائج صحيحة، وليس كما فعل (الطامحون إلى المجد) الذين هرَّبوا أبناءهم ثم التحقوا بهم، وأرسلوا صور البيوت الأنيقة بحدائقها، الفوَّاحة بأزهار التحالف الدولي، والورود التي فقدت رائحتها البلاستيكية بعد أن هبَّت عليها نسائم شرورهم..!

لقد شبّهت الأزمة بالغربال الذي يفصل الحَب الصافي عن الزّؤان..والفرق كبير بين طرفي المعادلة، بين ما تجمَّع فوق الغربال وما نزل تحته.. وتزداد الفروقات بين من يترك قلبه تحت ظل شجرة الحنان، ومن حجرَ على أحلامه ومزّقها نُتفاً.. ونثرها على طرقات البلدان.. وهو يتصور أن ما بقي من عمر سيبني فيه عشاً بأوراق اليورو والدولار..!

العدد 1105 - 01/5/2024