كيف تحول المواطن الصالح الى مواطن سائح ؟

على زماننا – كما يقول العجائز – كان عندنا وزارة اسمها وزارة السياحة، وسبب وجودها آنذاك هو وجود مخلوقات لطيفة يسمونها سياحاً، وهم أناس أكابر جاؤوا من بلادهم البعيدة حباً في رؤيتنا والتعرف علينا، وكثيراً ما كنا نصادفهم في الشوارع يتنقلون وهم يرتدون ثيابهم البسيطة، ويحملون حقائبهم على ظهورهم، وكاميراتهم في أعناقهم، فنتنهد ونتمنى أن يأتي يوم ونصبح مثلهم، فنسوح كما يسوحون دون همّ أو غمّ، ويبدو أن أبواب السماء تكون مفتوحة أحياناً بالمصادفة، لذا وصلت تمنياتنا إلى من بيده الأمر، فتحولنا فجأة إلى سياح، بعضنا باع بيته وسيارته وسافر يسوح في أوربا، ومن ليس لديه شيء يبيعه اكتفى بالسياحة الداخلية ! فراح يتنقل من محافظة الى أخرى حاملاً ما خفّ من أغراضه، وبعضهم خرج يسوح بالثياب التي عليه، مكتفياً من أمتعته بالموبايل. البعض أحب أن يساهم فعلياً في دعم قطاع السياحة، فسكن في الفندق، والبعض استأجر بيتاً في حارة مخالفات سياحية سبع نجوم، وبأجر سياحي، ووفق عقد سياحي أيضاً، يعني سائح عن جد. وبعد أن استقر في بيته وصار يفكر بالتعرف على معالم المدينة الجديدة، وجد أمامه سيارات أجرة سياحية تنتظره في الطريق، وهي آخر اختراع توصل إليه أصحابها الطفرانين لتسديد أقساطها، خصوصاً أنه لم يعد لها شغل عندهم بعد أن خيب البنزين آمالهم وهم قد اشتروها في زمن التقسيط والتبسيط، والحقيقة أنها سياحية فعلاً، لكنها – من أجل المتعة والتشويق – فهي تقلد باصات النقل الداخلي والهوب هوب أيضاً، إذ عليك انتظارها حتى تمتلئ، ثم بعد أن تجد نفسك محشوراً فيها، ستبدأ مساومة السائق عن ( أجرة الراس )، وبعد ذلك تواصل مشوارك، وسيكون أمامك فرصة للتعرف على زملائك السياح في السيارة، وتسمع قصة خروج كل واحد من مدينته ووصوله الى هنا …

وطبعاً نحن نتحدث عنك الآن باعتبارك مواطناً محظوظاً لديه بيت أجرة ووظيفة، ولكن إن لم تكن موظفاً، فأمامك فرصة إضافية لممارسة السياحة بين دوائر الدولة ومؤسساتها، عسى أن تحظى بعقد عمل سياحي، يعني لمدة ثلاثة أشهر، وهذه ( النهفة ) اختراع قديم اقتبسته الحكومة من تراثنا الزراعي، إذ كان صاحب الأرض يتعاقد مع بعض ( الشغيلة ) أثناء مواسم القطن أو الزيتون أو غيرها، فإذا كان الزير خالك واستطعت أن تحظى بهذا العقد، فستقضي هذه الشهور الثلاثة في استكمال أوراقك الثبوتية، ثم التعرف على مكان عملك، ثم العثور على كرسي للجلوس عليه، وبعدئذ تتعرف على زملائك في الوظيفة وتقص عليهم قصة دراستك وكفاحك في البحث عن عمل حتى لحظة وصولك إليهم بهذا العقد الثمين، أما بالنسبة للعقود غير السياحية، يعني العقود الأبدية فهذه لا يمكن أن تعرف أصحابها ولا تعرف من هو خالهم أيضاً ! وليس هذا مهماً، المهم أنك صرت صاحب راتب، وأصبحت قادراً على أن تحتار بكل حرية بين الأسمر والأشقر ! ولكن بما أنك سائح فستختار الأشقر أي الخبز السياحي، وهذا لا ينتقص من قيمة الأسمر ولكن المسألة مبدأ، مع تحذيرنا لك مسبقاً بأن مسألة تغيير نوعية الخبز قد خلق مشكلة اجتماعية بين الآباء والأبناء، وقد تؤدي الى اضطرابات داخلية سببها أن الأهل يفضلون الأسمر لمزاياه الاقتصادية، بينما الأبناء يصرون على أنه لم يخلق لهم ! وهكذا ستضطر لمجاراتهم خوفاً من الانشقاقات المحتملة، فتحضر لهم الربطة السياحية ذات الأرغفة المنمنمة التي كأنها صنعت خصيصاً لنحلف عليها لا لنأكلها ! وستراقب ابنك العاق وهو يلتهم منها مثنى وثلاث ورباع، بلا أي رادع من ضمير…

ولكي تثبت لك الحكومة أنك سائح، فستطالبك قريباً بفاتورة كهرباء سياحية. نعم، وما المانع ؟ أليس هناك عدادات كهرباء صناعية وتجارية وربما زراعية ؟ والآن سيكون لديك عداد سياحي إضافة الى عدادك العادي، فالعادي تشغل به ضوء الغرفة، أما السياحي فيشتغل حين يحلو لك الترفيه عن نفسك باستعمال البراد أو التلفزيون أو – لا سمح الله – المكيف.

أما قمة السياحة فهي أن تفكر بالمشاركة في مهرجان ( المكدوس ) وما أدراك ما مهرجان المكدوس ! فكر بموضوع الجوز والفليفلة والزيت، وستفهم وحدك المعنى العظيم لهذا المهرجان التراثي . أما إذا أردت أن تكون سائحاً( ببرنيطة ) فما عليك إلا أن تتكل على الله وتشتري نصف كيلو فستق حلبي، وتتمشى به بين معالم المدينة وأوابدها، وأنت تتذكر أيام الزمن الجميل.

العدد 1107 - 22/5/2024