حاكم المركزي وشركات الصرافة يتهمون الشعب السوري!

للأسف الشديد، ابتُليت البلاد بمن صنّفوا أنفسهم قادةً على المستوى الإداري الرفيع، وهم لا يستحقون ذلك، وجنى هؤلاء على ذواتهم وبلادهم، بينما يحصد الشعب خيباتٍ وخيبات. ينطبق هذا الكلام على كل المسؤولين الذين يديرون أزمة سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، وفي مقدمة هؤلاء: حاكم المصرف المركزي أديب ميالة، الذي يحارب طواحين الهواء، ويجلد السوريين باتهامات غير صحيحة، ويكيل لهم بمكيال، لا تقاس به أنفة شعب، يقرّ القاصي والداني بأنه شعب عظيم.

اتهم ميالة الشعب السوري، وشكّك بقدراته لجهة التفريق بين الغث والسمين، وبين الكذب والحقيقة. إذ قال_ كما نقلت وسائل الإعلام الرسمية_ في جلسة تدخّل عُقدت نهاية الأسبوع الماضي، عازياً أسباب التراجع في أسعار الصرف، على حد تعبيره، إلى:(استغلال الأطراف المعادية لخبر اتفاق تخفيض عديد القوات الجوية الروسية في سورية، لجهة التأثير في معنويات المواطنين، والعمل على رفع سعر الصرف بشكل غير مبرر).

 هل لعاقل أن يصدق هذا الرأي الخارج عن المنطق الاقتصادي؟ عقب حرب مستمرة لخمس سنوات، تبدو هذه الأسباب التي ذكرها ميالة واهية جداً، فالعامل السياسي على غاية من الأهمية، لكن ليس بهذا الشكل الذي يسرده حاكم المركزي، لجهة التأثير على المعنويات.

وأتت الطامّة الكبرى، فيما أشار إليه ممثلو شركات الصرافة في الجلسة المذكورة عينها، الذين أكدوا أن: (الفهم الخاطئ من المواطنين لاتفاق تخفيض عديد القوات الجوية الروسية في سورية، أدى إلى التراجع الأخير في سعر صرف الليرة)….هذه التهمة لا يستحقها شعب صابر على التحديات والحرب الظالمة. وحتماً، إن من قال هذا الكلام، وعبّر عن هذا الرأي المغلوط، هو من فهم القضية بشكل خاطئ، ويستحق المحاسبة الشديدة.

إن توجيه التهم إلى المواطنين_ بأنهم لم يفسروا سحب عديد القوات الروسية_ هو الخطأ بعينه، والبحث عن سبب غير مقنع، ما أدى إلى جر القضية العادلة إلى المطرح الغامض، والدفع باتجاه يضمن لشركات الصرافة استمرارها في النهب الممنهج والقانوني، وخلق مساحات إضافية للمناورة، وتكديس الثروات بالعملة الصعبة.

إنها ذهنية قروسطية، لتفسير الحالة التي وصل اليها سعر الصرف. إذ لا يتوقع أحد في البلاد، أن يتحسن سعر صرف الليرة، على يد اللجنة الاقتصادية وقراراتها، ومجلس النقد والتسليف وتوجهاته. و لن يكون بمقدور هذه الإدارة النقدية، أن تسهم إيجابياً في تحديد سعر مناسب لليرة، والمحافظة عليه. وسيبقى الدولار وغيره من القطع الأجنبي يلتهم ما تبقى من الليرة، ما دامت كل الظروف مؤاتية جداً، وما دامت الإدارة النقدية تهيئ التربة المناسبة، والأجواء الملائمة، لاستمرار مسلسل إضعاف الليرة، والمسّ بقوتها، واستكمال مخططات خطرة في هذا الجانب.

 الأسلحة التي يهدد بها حاكم المركزي لا تفيد ، ورغم اللهجة الحاسمة التي يتحدث بها، إلا أن حضور المركزي الضعيف، يؤدي إلى حصاد نتائج سلبية. الحاكم غير معني بالليرة كما يجب، مادام لا يفكر بشكل شفاف، ولا يتحدث بشكل منطقي، لأن الاعتراف بالمشكلة، هو سبيل لحلها، فإذا كانت كل التصريحات والتفسيرات المتعلقة بسعر الصرف، لا تعترف بحقيقة القضية، ذلك أنها لا ترى أن الليرة تخسر ما تبقّى لها من قيمة، بسبب الحالة الاقتصادية المتردية، وتوقّف الإنتاج، وجلسات التدخل الكئيبة التي يعقدها المركزي، ويعاني منها السوريون.

لا يتجرأ المركزي على البوح بأنه فقد السيطرة على المعروض النقدي في السوق المحلية، هذه حقيقة مريرة، يعلمها الجميع، لكن لماذا يرى الحاكم عكس ذلك؟ بدلالة تصريحاته التي ترى في كل ما يجري سبباً مزدوجاً لتفسير ارتفاع سعر الصرف أو انخفاضه؟ هل عجز الحاكم عن إيجاد سبب مقنع للناس يفسر لهم ما يجري؟

على مدى خمس سنوات لم يفلح المركزي، بخططه وإجراءاته التدخلية، في ضبط سعر الصرف، أو المحافظة على توازن هذا السعر، أو على السعر العادل. ولم يقابل هذا الفشلَ الذريع، تغييرٌ جوهريّ للسياسات الاقتصادية والمالية، أو استبدال الشخصيات التي تقود السياسة النقدية. بل ظهر اتجاه واضح مفاده الإصرار على أن تستمر في مواقعها تلك الشخصيات التي تبين دورها السلبي في إدارة أخطر أزمة نقدية في تاريخ سورية المعاصر. وإذا كان ميالة يملك القدرة على التحكم بسعر صرف الليرة، فلزاماً عليه أن يستخدم هذه الصلاحية، ويتخذ الإجراء المناسب، دون أن يلهث في تحديده اليومي لسعر الصرف خلف أسعار يوم سابق لمن يسميهم المضاربين على الليرة، وأسعار السوق السوداء.

ما يفعله ميالة كل صباح هو أمر بسيط للغاية، فهو يبحث عن السعر المحدد في السوق السوداء، ويربطه مع السعر الرسمي، ثم يضع سعراً جديداً هو الأقرب إلى سعر السوق السوداء. هذه ليست توقعات، إنما حقيقة مريرة جداً، وهو الإجراء الوحيد الذي يتخذه ميالة، ويرى فيه مُنجزاً.

السوريون يعلمون من أين تأتيهم المشكلات، ويدرون تماماً عنوان قضية سعر الصرف، في السبع بحرات بدمشق، حيث مطبخ أسعار الصرف للسوقين البيضاء والسوداء، هذا هو الجزء المغمور من جبل جليد سعر الصرف.

هذا يعني، أن ميالة وفريقه، هم أحد أسباب تهاوي قيمة الليرة، وتصاعد أسعار الصرف بشكل كبير. فالإجراء الخاطئ، في القضية النقدية، البالغة الحساسية، يعد أخطر من المضاربين وما يفعلونه، وأسوأ من الهجمة التي تتعرض لها العملة المحلية، إذ يشكل من يُفترض أن يدافعوا عن الليرة، أحد الأخطار عليها، بقصد أو دونه، والذين من المفترض أن يديروا العملية بكفاءة عالية، هم من يمهدون الطرق أمام الطغمة القليلة التي تراكم الثروة.

نشعر بالحزن والأسى عندما نتذكر قوة الليرة السورية في خمسينيات القرن الماضي، نسترجع اللحظات المريرة التي جرى فيها فكّ ارتباطها مع العملة اللبنانية، فيما تؤلمنا القرارات المدمرة لقوة الليرة حالياً، أمام بُعد النظر، واتساع الرؤيا، لشخصيات اتخذت قرارات عززت من قوة الليرة وموقعها، قبل أكثر من ستة عقود خلت.

لا تحتمل الليرة المزيد من التجريب، وضعها المتردي، قياساً لاقتصاد البلاد المتهالك، لا يمنحها القدرة على الصمود طويلاً، ويُضيّق طرق المواجهة ووسائلها أمامها. إن الليرة كائن من لحم ودم، ليست رمزاً وطنياً مجرداً، هي قضية القضايا، التي لا تعاملها اللجنة الاقتصادية المصغرة بما تحتاج إليه من دقة، وشفافية، وكفاءة. الليرة بوابة الاقتصاد الوطني رغم الحرب الظالمة التي تجرّعها شرفاء سورية، هي الميزان الذي لا يخطئ، ومن خلالها يستطيع المواطن العادي قياس درجة حرارة الاقتصاد، والخط البياني للمستوى المعيشي، والكثير من القضايا ذات الصلة.

هكذا يبدو المشهد: الليرة سبيّة، بيد مجلس النقد والتسليف واللجنة الاقتصادية المصغرة، قطعة من حديد بلا ثمن، طفلة أفقدوها براءتها، ويرقصون على بقايا ابتسامتها. من ينظر إلى النقوش الموجودة على الليرة، العقاب السوري مفرود الجناحين، يشعر بالعزة، هي حالة عاطفية عميقة من الانتماء الوطني، ورغبة عارمة في التمسّك بالوطن المقهور، وسعي لتعميم التميز السوري على مر العصور. في الليرة جينات يخبئها كل سوري تحت جفنيه، يتفاخر بحملها، يستميت للدفاع عنها. ويتذكّر السوريون، قبل سنوات، كيف اندفع ذوو الدخل المحدود، واقتطعوا جزءاً من رواتبهم، وأودعوها في المصرف التجاري السوري، دفاعاً عن ليرتهم، في الوقت الذي كانت فيه المصارف وشركات الصرافة – التي تتهم الناس زوراً الآن – تهرّب القطع الأجنبي.

ستبقى سفينة الليرة السورية، في حالة من الجنوح، لأن قضية سعر الصرف لا تدار بعقلية نقدية، وإنما بعقلية الجنرالات، ومادامت أزمتنا مشتعلة، وحربنا مستمرة. وما تخسره ليرتنا هو الوجه المظلم لهذه الحرب، بشقها الاقتصادي. إذ خسرت الليرة نحو90% من قيمتها، وبالتالي لن يبكي السوريون على 10% بقيت مهددة، فالخسارة الأكبر تجرّعها السوريون، والتزموا الصمت النقدي، وكظموا غيظهم المالي. لكن الشق المهم للقضية، يرتبط بشكل واضح بالأثر الكبير لقيمة الليرة وانعكاسه على المستوى المعيشي المتدهور.

هي ليرتنا، اقتصادنا الممزوج بدم من قضى في الحرب، هي الشهيدة، والشاهدة، على التآمر القذر على الشعب الطيب، الذي يحمل آلامه وجراحه، ويمضي إلى المجهول، كما ليرته.

العدد 1105 - 01/5/2024