الأمان الاقتصادي والاجتماعي

 يعتبر الأمن والطمأنينة شيئان أساسيان في الحياة الإنسانية، لا يمكن تصور المجتمع المستقر والمستدام من دونهما، لأنه بتوفرهما يتمكن الإنسان من الحصول على حاجاته الأساسية، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، وغيرها من الحاجات الكمالية، التي تزداد وتتنوع بتوفر الأمن والاستقرار في المجتمع. كما أننا إذا نظرنا إلى كيفية حصول الإنسان على المصادر التي يكوّن من خلالها الثروة أو الدخل أو استئناس الحيوان أو النباتات، نجد أنها لا تأتي إلا بتوفير الأمان والطمأنينة والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.

و ما وصلنا إليه نحن السوريين خاصة، وما يحاك لمن ينظر إليهم من منظور التبعية والعبودية، هو نتيجة معقدة ومركبة لمسببات كثيرة، والكل يقرّ أن السبب الاقتصادي هو الأهم لدول اللا انتماء إلا للمال، ولو على حساب الدماء والبناء والإنسان، وهي وريثة الإمبريالية القديمة وقد طورتها لتضم أغلب العالم إلى مزرعتها وتبعيتها، همّها السيطرة الاقتصادية واستمرار المعادلة للآخرين سوقاً لمنتجاتها ومصدراً للمواد الأولية، ومن يحاول الوصول إلى تنمية مستقلة يجب أن يدفع الثمن، ومن يسعى لسحب جزء من الاقتصاد العالمي بما يعزز تفوقه، سيحارَب بكل الوسائل والإمكانات وستقطع عليه كل الطرق وخاصة طرق الطاقة، التي كان الهم الأكبر سابقاً هو احتكار إنتاجها والسيطرة على منابعها، والهم الأكثر اليوم هو السيطرة على طرق تصديرها والتحكم بها بما يعرقل أي خطر استراتيجي قادم، ومن هنا أصبح الأمان الاقتصادي ضرورة لتوليد الأمان الاجتماعي الضامن والحامي للاستقرار واستمرار التنمية وتقويض كل محاولات التدمير والتهديم والعرقلة وقطع الطرق على القتل تحت يافطات كاذبة باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وهنا لا بد من تعريف الأمن الاقتصادي والاجتماعي الذي تكفل الدولة تأمينه لمواطنيها، فالأمن لغة يعني عدم الخوف، واصطلاحاً يعني تهيئة الظروف المناسبة التي تكفل الحياة المستقرة، ومن خلال الأبعاد السياسية والاقتصادية التي تهدف إلى توفير أسباب العيش الكريم وتلبية الحاجات الأساسية.

والأمن الاجتماعي يعني توفير الأمن للمواطنين بالقدر الذي يزيد من الشعور بالمواطنية والانتماء والعدالة الاجتماعية. وقدمت الأمم المتحدة تعريفاً جامعاً للأمن الاقتصادي وهو: (أن يملك المرء الوسائل المادية التي تمكّنه من أن يحيا حياة مستقرة ومشبعة). ويعرّفه آخرون بأن يملك الفرد ما يكفي من المال لإشباع حاجاته الأساسية وهي: الغذاء والمأوى اللائق، والرعاية الصحية الأساسية والتعليم.

وهناك عدد من النظريات تحدثت عن علاقة الأمن الاقتصادي بالحاجات الأساسية للإنسان، وهي ما يعرف بنظريات الحاجات الأساسية، التي تتمثل في نظرية ماسلو ونظرية موري ونظرية هيرزبرج. فقد أشارت نظرية ماسلو إلى أن الحاجات الأساسية للإنسان تكون في شكل هرم تبدأ من أسفل إلى أعلى، وبالتالي فان الإنسان يبدأ في إشباع حاجاته من أسفل إلى أعلى إلا أن قليلاً من الناس من يصل إلى قمة الهرم. فالإنسان في نظر ماسلو يبدأ بإشباع الحاجات الطبيعية، ثم الحاجات الأمنية التي تليها الحاجات الاجتماعية ثم الحاجات النفسية، وأخيراً تحقيق الذات.

وحسب نظرية ماسلو فإن إشباع الحاجات الأمنية للإنسان تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية. كما أشارت نظرية موري إلى الحاجات الأساسية للإنسان من منظور الدوافع الأساسية التي تحرك الإنسان وحددتها في عدد من الدوافع هي الجوع، والجنس وحب الاستطلاع. وبالتالي فإن النظرية حاولت الربط بين الآثار المترتبة على انعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي وأسبابه.

أما نظرية هيرزبرج فأشارت إلى أهمية الحاجات الأساسية للإنسان، التي تتمثل في الماء والهواء والغذاء، ويرى هيرزبرج أن هذه الحاجات هي التي تدفع الإنسان لإظهار سلوك معين، ويمكن القول إن انعدام الماء والغذاء والهواء يمكن أن يؤدي إلى عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع الإنساني.

و بالتالي للأمان الاقتصادي مرتكزات، وبالوصول إلى هذا الأمان يصبح موضوع الأمان الوطني منوطاً بكيفية استغلال الأمان الاقتصادي ومخرجاته لبناء اجتماعي قوي صلب متجانس يصعب اختراقه ويعرقل أي مشاريع خارجية، فاستثمار المخرجات الاقتصادية بما يحقق عدالة اجتماعية انطلاقاً من مبدأ اللا فقر من خلال مؤشرات رقمية تجعل مداخيل الشعب فوق مستوى المبلغ الذي يحقق مستوى معيشة لائقاً، وأكيد هذا سيكون عبر برامج وسياسات تكتيكية واستراتيجية تحقق التنمية المستقلة المتوازنة المستمرة، وعند الوصول إلى هذا النوع من مخرجات التنمية يجب التفكير بآليات لتوسيع الخيارات، بما يحافظ على الصلابة ويقويها ويزيد من الفوائض الجاهزة لامتصاص أي مفاجآت، وهذا يحصل من خلال سياسات واقعية منطقية لا من خلال تبني سياسات أبعد ما تكون عن الواقع لتصبح وسيلة لتحطيم المنجزات وتهشم الصلابة.إذاً، الأمان الاقتصادي بحاجة إلى مرتكزات:

– الدور المركزي للحكومة في قيادة العملية الاقتصادية، وهذا لا يعني إلغاء القطاع الخاص أو تخسيره وإنما وضعه في ركب الخطط العامة والأهداف الوطنية بما يكامل العملية الاقتصادية ويزيد من إنتاجيتها ويقوي الصلابة الاجتماعية.

– سياسات نقدية موازنة تحافظ على قيمة العملية وتوجهها بمقتضيات الحاجة الاقتصادية ضمن هوامش.

– الأمن الغذائي بالعمل على تأمين الحاجات الضرورية اعتماداً على الإنتاج المحلي قدر الإمكان وتأمين ما بقي بالاستيراد من أماكن أكثر أماناً بحيث لا تصبح سلاحاً ضد البلد في وقت لاحق، وبالتالي تأمين ظروف الاستقرار لسكان الأرياف من خلال تأمين احتياجاتهم وتوزيع المؤسسات الخدمية في كل المناطق يساعد على استمرار الأمن الغذائي وعلى الاستقرار الاجتماعي.

– سياسات مالية تراعي الواقع الاجتماعي وتعدل بتوزيع الضرائب والرسوم بحسب مقدار الدخل، ولا تنحاز لأصحاب الرساميل والأغنياء أو للقطاع الخاص، على حساب مداخيل الجهاز الحكومي.

– سياسات استثمارية تراعي حاجات البلد الأساسية وتساعد على التنافسية الحقيقية وتحقق الأمن للبلد من خلال اختيار الجهات الممولة.

– التقليل من المديونية الخارجية وعدم الارتباط بالمؤسسات الدولية التي تهدف لفرض برامج اقتصادية معينة.

– الانطلاق من حق الجميع في الصحة والتعليم، وبالتالي تصدي المؤسسات الحكومية لتحقيق هذا الحق، والذي من خلاله نحافظ على الأمن الصحي وعلى الأمن العام من خلال نشر التعليم والقضاء على الجهل وتأمين حاجات المجتمع من الكفاءات والخبرات. إن توسيع هذه الخدمات وتنويعها عبر دخول القطاع الخاص يكون من خلال الحاجة وبما لا يؤثر على نوعية الخدمات ولا يكون عبر الإقحام المرافق بتشويه الخدمات العامة وتقليصها، وأي تقليص لدور القطاع العام أو تشويه لمنتجاته هو محاولة للنيل من الأمان الاقتصادي والاجتماعي.

– ضبط السياسات الاستهلاكية الغرائزية في مجتمعات لم تصل إلى مراحل الرفاهية العليا وإلى مواقع اقتصادية متقدمة بفوائض إنتاجية تتجاوز أغلب الدول. وهذا الضبط يكون عبر السياسات الائتمانية وعبر تعميم ثقافات تواجه الثقافات المضادة والمتحيزة التي تجعل المجتمع استهلاكياً غرائزياً.

– المحاولة على توازن الميزان التجاري أو تغليب جهة الصادرات، وهذا يكون بترشيد المستوردات وتوجيهها نحو زيادة الطاقات الإنتاجية.

– تنويع مداخيل الاقتصاد، فقوة البلد المتكامل اقتصادياً أكبر من قوة البلدان الريعية وهذا كان من مكامن قوة سورية قبل التحولات والانقلابات الاقتصادية وحتى قطاع الخدمات يصبح صناعة ومولداً للدخل وللعملات في ظل تكامله مع القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية وخاصة الصناعة السياحية وكذلك يمكن الاستفادة من الخدمات الصحية والتعليمية.

– الاحتياطات من العملات الأخرى والذهب والتي تكون بر الأمان في الظروف الصعبة من حصار ودمار وحروب.

ومن العناصر التي تقوي الأمن الاقتصادي توفر الشفافية في القوانين وسيادة القضاء ووجود الكفاءات الإدارية وغياب الفساد الإداري وحرية التنافس الحقيقي.

إن الوصول إلى الأمان الاقتصادي، المترافق بسياسات اجتماعية تراعي المجتمع وخصوصيته وتهدف للعدالة، يحقق الأمان الوطني ويعطي مؤشرات لصعوبة الاختراق.              

وبشكل عام تتمثل أهم الأسباب التي تؤدي إلى عدم الاستقرار الاقتصادي في الآتي:

1. الحروب والنزاعات.

2. الفقر وانخفاض مستوى المعيشة.

3. عدم التوازن في التوزيع العادل للثروة والسلطة.

4. الكوارث الطبيعية والبيئية.

5. عدم العدالة والتهميش التنموي.

6. الأمراض والأوبئة التي تصيب الإنسان والحيوان والمحصولات الزراعية.

7. البطالة وانخفاض معدلات الإنتاج وازدياد معدلات الإعالة أو التبعية الاقتصادية.

8. انتشار الجوع والخوف وسوء التغذية ونقصان الغذاء.

9. عدم استغلال الثروات المفضي إلى التخلف الاقتصادي.

10. عدم مراعاة الجوانب الاجتماعية في الخصخصة وسياسات الهيكلة الاقتصادية.

العدد 1107 - 22/5/2024