رسالة إلى حبيبتي

تحية وسلام وخوف من العتمة والظلام.. السؤال عنك أولاً، فأين سافرتِ؟ وأين أصبحتِ؟ ومتى وصلتِ؟ وكيف نمت؟ وماذا شربت وأكلت..؟ وفي أي بلد يسيل منه العطف.. ويتدفّق سيل الشوق والحنان.. وأنا صابر لا أعرف الليل من النهار.. أو حيّاً أو ميتاً، أو أنّي أغرق في بحر الشوق أو في بحر النسيان..!

حبيبتي كهرباء.. كنتِ الوحيدة المدللة في أيام السلم والحرب.. يسطع نورك البهي في ليالينا ويدخل من نوافذ قلوبنا.. ويغذّي ذاكراتنا بالأمل والتفاؤل .. ومنذ أن اقتلع الموت الحبّ من قلبك، وزرع الإرهابُ العبوات الناسفة في أجساد المواطنين واشتدّت مآسينا، ما زلنا نبحث عنك أيتها الغانية صديقة الملايين .. أيتها المتغاوية اللعوب العاشقة للحب والخير لم تنفعك هذه الأمة الكسولة بعد الآن..!

ومنذ أن تركتِني أصبح الحزن قاموسي الوحيد أقرأ فيه مستقبلاً آسناً بالآلام..  لقد هجرت قلبي وبكت عليك نبضاته.. وتركتِ بيتي والديار وشوارع مدينتي أيتها الحبيبة.. تلك المدينة التي تأوي بعد المغيب بساعة تحت سقف الظلام .. تنام مع أحلام الناس والأيتام، بينما يجلس القمر على كرسيه يغازل النجوم.. وأنتِ أيتها المشردة لم يبقَ من أحلامك سوى بقع رمادية. وفي كل صباح تقفين على بوابة الحدود تودعين الشباب المهاجرين، لكن هذه الأجيال لن تنسى أفضالك وعطاياك..! الأجيال السائرة على طريق الهجرة.. وقد هربوا أو فرّوا تائهين  في فضاءات كسولة مجهولة الهوية.. وقد وصفت تلك البلاد بالجنة على الأرض، ففيها الكهرباء والعسل والطعام والمشروبات الغازية. . وسيظل هؤلاء  يبحثون عن بقايا رماد السنين دون أمل أو حلم شفيف..!

وبدأ الغناء الحميم يسيل لعابه من حلقي، وتتهاطل دموع ذاكرتي خوفاً عليك من السقوط في وادي النسيان ولم أعد أراك أبداً..!

حبيبتي الغالية!

لقد تشرَّد أصدقاؤكِ وغاب أمل عودتك إلى بيوتهم وورش العمل والدراسة وقراءة الأبراج.. وأصبح الجلوس أمام البيوت وعلى أسطح البنايات، رغم جنون الطقس وارتفاع الحرارة التي اقتربت من الانفجار، وربما الموت على قارعة الطريق، أو أثناء الصعود إلى البيت أو في المصعد وأثناء قيادة السيارة وعلى مقعد الامتحان مقبولاً.. ولم يجد أي شخص فرصة للنجاة والبقاء على قيد الحياة.. فأنت أيتها الحبيبة كنت السبب وما زلتِ أو من يقوم برعايتك في كل ما يحدث في شهر آب اللهاب .. فلا تجدين من يقدم لك شراب (الفيول) ولا الغاز مما أدى إلى فقدان السوائل من جسمك، فارتخت مفاصلك واصفرَّ وجهك ونقص وزنك.. ولم أعد أرى في عينيك أزهار الحب التي زرعتها ورويتها بماء قلبي..! 

حاولت مراراً أن أخفف من هواجسي  السود وأتركها خلفي وأطير إلى المجرات العاليات… أن أبحث عنك في أعمدة الشوارع وفي قلوب الأمهات والأطفال اللاهثين الذين يرضعون الحليب الساخن من أثداء أمهاتهم.

الناس والشارع وفقراء الوطن والضائعون في متاهات مناطق اللجوء .. جميعهم أكدوا أنك هاجرتِ مع المهاجرين ولن تعودي إلينا حتى ولو انتهت الأزمة وعاد الاخضرار إلى ربوع الوطن..

جفَّ حبرُ قلمي وتجمَّدت خلايا ذاكرتي .. فقدتُ الصبر الذي رغم كل الآلام بقي منه ما يكفي لشهور أخرى في ظل عتمة قاتلة..

لا أعلم أن رسالتي قد وصلت إلى حبيبتي كهرباء أو لم تصل، إلاَّ أنني قبل دقائق علمتُ من بائع عرانيس الذرة الذي يتابع أخبارك، أنك تنامين الآن في البيوت السرية.. وقد تخلّى عنك ملايين الأصدقاء..

تحيتي لك!

 

دمشق في 10 آب 2015

العدد 1105 - 01/5/2024