مسؤولونا يغرّدون في فضاءات من الوهم!

 يُصرُّ بعض المسؤولين في الحكومة على التحدّث عن واقعنا المرير بلغة حالمة حيناً وانهزامية حيناً آخر.. فها هو ذا أحدهم قبل زمنٍ ليس بالبعيد يقول إن رفع أسعار بعض المواد الأساسية والضرورية هو خدمة للوطن والمواطن.. واليوم يخرج إلينا مستشار وزير الاقتصاد السيد غسان العيد بطرفة ربما تدخل موسوعة غينس لشدّة طرافتها وغرابتها، وهي أن الحكومة ليست السبب في فقر المواطن، إذ قال:

(لا يمكننا أن نضع اللوم في الفقر الذي وصلنا إليه على أية مؤسسة حكومية، سواء كان البنك المركزي أم الحكومة السورية الحالية، فالمؤسسات الرسمية والشعبية خلقت من الضعف قوة لمواجهة الأزمة، ما أدى إلى تقوية العلاقات الاجتماعية في المجتمع السوري).

ألا تجعلنا هذه التصريحات نرى أن هذا المسؤول أو ذاك هم خارج حدود بلدنا، أو ليسوا من كوادر الحكومات المتعاقبة في إهمالها مطالب المواطن وسوء معيشته منذ ما قبل الأزمة الحالية بسنوات، فالسيد غسان العيد كان فيما مضى معاوناً لوزير الاقتصاد، وعليه أن يُدرك قبل غيره أن السياسات الاقتصادية المتّبعة منذ إصدار قانون الاستثمار رقم 10 بدايةً، ومن ثمّ ما أُطلق عليه اقتصاد السوق الاجتماعي وما تبعه من تخلي الدولة عن كثير من واجباتها ومسؤولياتها تجاه مواطنيها، واستقالتها من سياسة الدعم لكثير من السلع والمواد الضرورية الهامة، والتي تُعتبر حقاً مشروعاً لكل السوريين في خيرات بلادهم، إضافة إلى التعامل اللامسؤول مع مسألة الجفاف التي ضربت الجزيرة السورية وأدّت إلى هجرة قرى بأكملها ولجوء أهلها إلى أطراف المدن الكبرى، رصيدهم الوحيد الفقر والتشرّد والبطالة، فأقاموا فيما سُمّي حينذاك بمدن الصفيح التي وثقت بأفلام سينمائية وثائقية وبشهادات أولئك الفلاحين، إضافة إلى أن هذا الجفاف قد قلّص المساحات المزروعة بالمحاصيل الاستراتيجية من قمح وقطن، وأدى إلى انخفاض مستوى المخزون الاحتياطي منها، ما دفع ببعض المسؤولين الفاسدين حينذاك وبعدها للخروج علينا بذرائع واهية بشأن عدم استلام الدولة لمحصول القمح الذي أصيب حسب زعمهم بصدأ القمح تارة، وبسونة القمح تارة أخرى، وهذا ما فسح المجال واسعاً أمام بعض التجّار المتنفذين للاستيلاء على المحصول كاملاً بأسعار لا تقارب أسعار تكلفته.

كما لا يمكن لأي سوري أن ينسى أن تلك السياسات، المنقادة لشروط الهيئات المالية الدولية بتحرير الاقتصاد والتجارة، قد قادت البلاد ومواطنيها إلى مستويات معيشية غير لائقة بسبب ارتفاع معدلات البطالة، إضافة إلى ارتفاع مستوى الفقر بين معظم شرائح السوريين، ما أدى لانهيار الطبقة الوسطى الحامل الأساسي لتطور المجتمع وتنميته، واتجاه غالبيتها للانضمام إلى صفوف الفقراء، وجزء قليل منها اتجه نحو البرجوازية الطفيلية بحكم وجوده ضمن حلقة بعض المتنفذين، وفوق كل هذا لجوء الدولة إلى خصخصة التعليم والصحة وسواها من مواقع كانت حتى وقت قريب آنذاك محصورة بالدولة لخدمة مواطنيها من الفقراء وذوي الدخل المحدود، وقد ترافقت تلك الإجراءات بتخفيف الرقابة عن الأسواق بشكل خجول بدايةً، ثم ما لبث أن أصبح سياسة جارية دون أي رادع لحماية المواطن من نهم التجّار وجشعهم..

فليتذكّر السيد العيد أن كل هذه السياسات مجتمعة كانت، باعتراف بعض المسؤولين والاقتصاديين، أحد أهم أسباب الاحتجاجات التي قامت منتصف آذار عام 2011 قبل أن تتجه الأمور إلى ما آلت إليه لاحقاً.

بالتأكيد لا يمكننا أن نُغفل الارتدادات السيئة والقاسية لأية حرب في أي بلد سواء على الحكومة أو المواطنين اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً وصناعياً، لكن أيضاً هناك سياسة تُتبع في مثل تلك الظروف تُسمى اقتصاد الحرب، بمعنى أن تُسخّر الدولة إمكاناتها وإمكانات مواطنيها في سبيل تجاوز تبعات هذه الحرب وويلاتها، وهذا ما قامت به الدولة أثناء الحصار الذي فُرض على سورية ثمانينيات القرن الماضي، فقد جرى حصر المواد المعيشية الأساسية للمواطنين بيدها وتقنينها عن طريق المؤسسات الاستهلاكية بسعر مدعوم منها، ما جعل جميع المواطنين متساوون في الحصول على احتياجاتهم بأسعار تناسب مداخيلهم حينذاك. أمّا ماجرى وما زال يجري حتى اللحظة فهو مخالف تماماً لكل الأعراف والقوانين المفروض اتباعها في مثل ظروفنا، فلقد تخلّت الدولة، بعناد، عن كل مسؤولياتها المنوطة بها تجاه مواطنيها، فعمدت هي أولاً إلى تجاوز جميع الخطوط الحمر بشأن عدد غير قليل من المواد والخدمات الأساسية من ماء وكهرباء واتصالات وطبابة ودواء وعلى رأسها الخبز، غير آبهة بما سيؤول إليه حال المواطن سواء الذي تشرد في أصقاع البلاد بلا مأوى أو عمل، بحكم الحرب، أو ذاك الذي ما زال متشبثاً بعمله من ذوي الدخل المحدود الذي لم يعد يكفي ليومين من الشهر، ولم تكتفِ بذلك، بل شرّعت الأبواب على أقصى اتساعها للتجّار والسماسرة المتربصين بقوت المواطنين ووجعه، ليكونوا أصحاب الكلمة الفصل في الأسعار المرتفعة بتواتر مرعب ما بين ساعة وأخرى اللحاق بركب سعر الدولار الذي لم تستطع الحكومة ولا حاكم مصرف سورية المركزي من الإمساك بلجامه حتى الساعة، متسلحين بتبريرات غير مهنية ولا مقنعة وبجلسات تدخّل غير مجدية.

وبالعودة إلى تصريح السيد المستشار الاقتصادي في الجزء الذي تحدّث فيه عن سياسات المؤسسات الرسمية والشعبية التي خلقت من الضعف قوة لمواجهة الأزمة، ما أدى إلى تقوية العلاقات الاجتماعية في المجتمع السوري. فإننا إذا ما تمعّنا قليلاً بما آلت إليه تلك العلاقات خلال سني الحرب، نجد أن الجشع والطمع والانتهازية والفساد كلها مسلكيات سادت، حتى وصلت مستويات قياسية ومرعبة عملت على زعزعة الأواصر الاجتماعية وحتى الأسرية، إضافة إلى سيادة المحسوبيات لاسيما في أجهزة الدولة ومؤسساتها تحت ستار لا يمكن لأحد اختراقه ألا وهو الوطنية، يُتوّجها جشع التجّار والسماسرة ومالكو العقارات التي وصلت أسعارها أو إيجاراتها إلى أرقام خيالية قد لا تجدها مثيلاً لها في الدول الأوربية، مما يؤكّد أن أزمتنا أزمة أخلاق أكثر منها أزمة سوق ورقابة وأسعار، حسبما صرّح السيد جمال السطل أمين سر جمعية حماية المستهلك في دمشق وريفها، بعد أيام قليلة على تصريح السيد العيد، حين طلب من المواطنين عدم شراء السلع والمواد من بائع واحد، وأن يبحث المستهلك عن السلعة نفسها في أكثر من مكان لوجود فارق كبير بسعر السلعة بين بائع وآخر ومحل وآخر، وذلك على خلفية الارتفاع الكبير لأسعار معظم السلع والمواد الغذائية وغيرها في الأسواق مؤخراً، والتي وصلت نسبتها لأكثر من 20%… وأكد السطل أن كثرة الضبوط التموينية لا تعتبر معياراً في ضبط الأسواق، ولن تحد من ارتفاع الأسعار، لأن ما تعانيه أسواقنا هي أزمة (أخلاق) بالدرجة الأولى أكثر منها أزمة (أسعار) وذلك لوجود الكثير من تجار الأزمات والمستغلين في أسواقنا.

أبعد كل هذا، هل يشي الواقع المُعاش للوطن والمواطن بصحة ما جاء في تصريحات السيد المستشار الاقتصادي..؟

العدد 1105 - 01/5/2024