الصناعة والحلقة المفرغة

 مما لاشك فيه أن تحسن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في سورية يرتبط بالتوصل إلى حل سياسي للأزمة التي تعاني منها بلادنا منذ أكثر من خمس سنوات، يتضمن إقامة نظام ديمقراطي تعددي يضمن وحدة البلاد وعدالة توزيع الدخل والتنمية الاقتصادية والاجتماعية بين مختلف أبناء الوطن ومناطقه، وهو أمر يدرك الجميع أنه ليس سهلاً، ولن يتحقق سريعاً. لكن ذلك يجب ألا يحول دون بذل أقصى ما يمكن من العمل من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية حالياً، وذلك بمعالجة ما يمكن من المشاكل والنتائج السلبية الكبيرة التي نجمت عن هذه الأزمة، وعدم الانتظار لحين زوالها، لأنها قد تولّد مشاكل أكبر وأوسع تزيد من حجم أضرار هذه الأزمة وآثارها الاقتصادية والاجتماعية السلبية.

دوران حركة الإنتاج والتصنيع، ولو جزئياً، يؤدي دوراً هاماً في معالجة عدد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، سواء في تخفيف حدة البطالة والحد من الهجرة، أو في مجال توفير القطع الأجنبي من خلال إنتاج منتجات تلبي الحاجات الأساسية للمواطنين السوريين عوضاً عن استيرادها، وبالتالي تصدير الفائض منها الأمر الذي يمكن من خلاله أيضاً وقف تدهور قيمة الليرة السورية والحد من ارتفاع الأسعار. لكن المشكلة تكمن في كيفية تمكين القطاع الصناعي من العودة إلى الإنتاج وتوفير مستلزمات ذلك لتحقيق الأهداف المرجوة.

صناعيون كثر أدت الأزمة إلى حرق منشآتهم وخطوط إنتاجهم ومنتجاتهم وموادهم الأولية أو تدميرها أو سرقتها، وعملية إعادة تأهيل هذه المنشآت وتشغيلها تحتاج – إضافة إلى استتباب الأمن والأمان – إلى أموال وتجهيزات وتوفير الخدمات الضرورية من بنى تحتية وكهرباء وماء ووقود. وفي الوقت الذي لا تتوفر لمعظم الصناعيين المتضررين هذه الإمكانيات، تعلن الجهات الحكومية المعنية – رغم تصريحات المسؤولين فيها عن دعم القطاع الصناعي- عن عدم توفر الإمكانيات والموارد المالية لديها لتأمين هذه المتطلبات. يضاف إلى ذلك توقف المصارف العامة والخاصة عن تقديم القروض للصناعيين في هذا المجال، بل اتخاذها إجراءات قانونية من حجز ومنع للسفر بحق المتعثرين منهم، حتى القرار المتعلق بمنح القروض التشغيلية منذ اكثرمن عام لم يوضع موضع التنفيذ بعد.

وهنا تكمن الحلقة المفرغة: من دون إنتاج لاتتوفر موارد، ومن دون تمويل لا يمكن الإنتاج وتحقيق الموارد.

معظم المنشآت الصناعية التي تعمل حالياً هي المنشآت التي كانت موجودة أصلاً في أماكن آمنة، أو تلك التي جرى نقلها إلى أماكن آمنة، وقسم منها جرت تجزئتها ووضعها في عدة أماكن، إضافة إلى المنشآت ذات الأضرار الصغيرة التي لا تتطلب أموالاً كبيرة لتأهيلها وإعادة تشغيلها. كل هذه المنشآت، على الرغم من تواضع عددها ونسبتها التي لاتتجاوز 10% من عدد المنشآت الصناعية التي كانت موجودة وتعمل قبل الأزمة، أعيد تأهيلها وتشغيلها بأموال الصناعيين أنفسهم، ليس هذا وحسب بل إن التعويض على المنشآت الصناعية التي تضررت لايتحقق بالسرعة المطلوبة، وهو أصلاً محصور بالمباني فقط دون الآلات والتجهيزات وبحد أقصى لايتجاوز 10 ملايين ليرة سورية. كما أن قرار منح القروض التشغيلية جاء من باب رفع العتب، لأن الشروط الصعبة إن لم نقل التعجيزية التي تضمنتها التعليمات التنفيذية لمنح هذه القروض جعلته من القرارات موقوفة التنفيذ عملياً.

ماتزال نسبة 90% من المنشآت الصناعية خارج الإنتاج، وما يزال أصحابها خاصة ممن لاتتوفر لديهم إمكانيات التمويل ينتظرون كيف ستقوم الجهات المعنية بكسر هذه الحلقة المفرغة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتوفير التمويل، والسماح بمنح القروض بشروط ميسرة، لأن تشغيل المنشآت الصناعية ودوران عجلة الإنتاج هو وحده من يساهم في توفير موارد إضافية للخزانة العامة ويكسر الحلقة المفرغة التي تعيشها الصناعة السورية في مجال التمويل، ومن دون ذلك فإن شحّ الموارد سوف يطيل زمن الأزمة ويستهلك المزيد من الموارد، وبذلك تتفاعل العمليتان وتتبادلان ضخ المزيد من الآثار والنتائج السلبية.

العدد 1107 - 22/5/2024