الإنسان أم الآلة؟

 كثيراً ما حرّضت فكرة الصدام المفترض بين الإنسان والآلة خيال مؤلفي قصص وروايات الخيال العلمي، ومع دخول الفن السابع على الخط، لقي هذا النوع من القصص رواجاً منقطع النظير على يد مجموعة من أشهر منتجي الأفلام السينمائية،الهوليودية منها على وجه الخصوص وحجزت سيناريوهاته موقعها المتميز إحدى أهم الموضوعات رواجاً في صالات العرض حول العالم كاسرةً حلقة احتكار فكرة غزو الكائنات الفضائية لهذا الفن الحديث العهد نسبياً.

معظم الأفلام التي عالجت فكرة الصدام المفترض بين الإنسان والآلة استندت إلى مسلّمة أساسية مؤداها أن اعتماد الإنسان المتزايد على الآلة في تدبير شؤونه وغزوها لأدق تفاصيل حياته اليومية خاصة مع القفزات التكنولوجية الهائلة  التي شهدتها شتى ميادين العلم خلال العقدين الأخيرين، كل ذلك سيفضي في نهاية المطاف إلى وصول الآلة في مرحلة ما إلى لحظة امتلاك الإرادة المستقلة عن إرادة البشر وبالتالي التمرد على مشيئتهم، وانطلاقاً من هذا الافتراض جاء التوزيع التقليدي لأدوار الخير والشر متناغماً مع الرؤية البشرية للقضية: الآلات الشريرة التي تسعى إلى تدمير الحضارة البشرية، والأبطال الأخيار من بني البشر الذين يدافعون عن بقاء الجنس البشري وديمومة حضارته.

من أشهر الأفلام التي عالجت الموضوع وفق هذه الطريقة الكلاسيكية على سبيل المثال سلسلة (TERMINATOR)  بطولة النجم الهوليودي الشهير آرنولد شوارزينجر والنجمة القديرة ليندا هاملتون، وكذلك فيلم(I,ROPOT) بطولة النجمين ويلي سميث وبريدجيت مويناهان، وسواهما الكثير من الأفلام مما لا يتسع المقام لذكره.

لا شك أن لهذه الفكرة الخيالية والطريقة النمطية لمعالجتها جذور عميقة في الوعي الجمعي الإنساني، ولكن يبدو أن ظهورها كنظرية شبه متكاملة ذات بعد فلسفي يعود إلى حقبة الثورة الصناعية الأوربية أواسط القرن الثامن عشر وما أفرزته من تبدلات عميقة خلخلت مفاهيم المجتمع الأوربي القروسطية  ووضعت الإنسان وجهاً لوجه إزاء جبروت الآلة وإمكانياتها اللامحدودة، فأفضت أحياناً إلى نشوء ردة فعل سلبية تجاه هذا التحول الخطير في أنماط حياة الفرد والمجتمع وكانت فلسفة جان جاك روسو( 1712- 1778م) الطبيعية ودعوته إلى نبذ المدنية والعودة إلى أحضان الطبيعة البكر خير تجسيد لريبة البعض وتوجسهم شراً من هذا الواقع الجديد المثير للقلق.

اللازمة التقليدية التي يحلو لنا نحن بني البشر أن نرددها في سياق ذمّنا للآلة كمفهوم هي لازمة النعت بالتجرد من العواطف والمشاعر، وهذه النقطة بالذات باعتبارها نقطة التمايز الأبرز والأهم بين الآلة والبشر كثيراً ما كانت موضع مقاربة العديد من الأفلام لهذه القضية في سياق الإطناب في الإشادة بهذه المنقبة التي نختص بها بين بقية الكائنات والموجودات في هذا الكون.

اليوم.. ومع فائق الاحترام لجان جاك روسو وطبيعيته، ومع كل التفهم لهواجسه المشروعة، ومع كل التقدير لرومانسية مريديه حول العالم وأحلامهم الوردية بإعادة تصويب مسار الحضارة الإنسانية وفق نواميس الطبيعة والفطرة، مع كل مشاعر الاحترام والتقدير والتبجيل لهؤلاء ولكل من يرى رأيهم..

 اليوم.. في مطلع الألفية الثالثة بكل ما حملته من تحولات وانزياحات كبرى في العديد من المفاهيم والمسلّمات وحتى المعتقدات،ثمة إشكال ملحّ لا بد من البت به بكل موضوعية وتجرد.. إشكال لا سبيل إلى طرحه إلا عبر تساؤل بصيغة افتراض: يا ترى.. لو قدّر لأحد هذه السيناريوهات الخيالية أن يتجسد واقعاً حقيقياً إنما مع بعض التعديل فيما يخص النهاية السعيدة التي غالباً ما نحيكها متوافقة مع انحيازنا لبني جلدتنا لتغدو مقلوبة هذه المرة بحيث تنتهي القصة بانتصار الآلة وسيطرتها على مصائرنا.. لو قدر لمثل هذا السيناريو أن يتجسد يوماً ما حقيقة واقعة.. يا ترى هل كنا سنذوق على يد هذه الآلات الشريرة المجردة من العاطفة والشعور بأساً وألماً ووحشية أكثر مما رأينا من أفعال بني البشر (أصحاب العواطف والمشاعر والأحاسيس) بعضهم ببعض؟

هل خطر لأحد كتاب سيناريوهات الخيال العلمي أن يصور آلة ما تتفنن في أساليب القتل والتعذيب على النحو الذي حدث ويحدث اليوم على أيدي أشباه البشر في شتى أرجاء المعمورة؟ هل يمكن للآلة بالغاً ما بلغ بها التجرد من العاطفة والشعور أن تمارس القتل بأشنع أشكاله وسواه من أشكال امتهان قداسة الحياة الإنسانية باسم القيم السامية والمثل العليا؟ أليس تجرد الآلة من العاطفة والشعور يستلزم ضرورة تجردها من مشاعر الحقد والكره وشتى العواطف (الإنسانية) السلبية التي نختص نحن بني البشر بامتلاكها؟

تساؤلات بديهية وإن كانت افتراضية ليس جلّ هم طارحها الحصول على أجوبة تفيد السلب والإيجاب بقدر ما هي (فشة خلق)  نضعها برسم المعوّلين على العواطف والمشاعر والأحاسيس الإنسانية كخيار أوحد لابديل عنه في رسم سيرورة التاريخ (الإنساني).

العدد 1105 - 01/5/2024