جارتي والفيسبوك

 لا اعتقد أنكم بحاجة إلى أن أحدثكم عن الفيسبوك، هذه الصرعة الجديدة الوافدة إلينا والتي باتت في متناول الجميع، ولعبت بأوقاتي ذات دردشة متأخرة كما تلعب النار في الهشيم. لست في وارد الحديث عن هذه التقنية من حيث مزاياها ومساوئها فالجميع يحافظ عليها في جهازه الخليوي أو على جهاز الحاسب لدرجة أننا اكتفينا بالهاتف وما يحويه من معلومات وصداقات ودردشات وغير ذلك من المقاطع والصور، ولزمنا بيوتنا ومقاعدنا وزوايانا التي تخفينا عن عيون المارّة واحتل الهاتف مكانة مرموقة ومحسود عليها في أولوياتنا، فالرجل لا يمكن أن يغادر منزله دون الهاتف، والزوجة أصبح هاتفها في المرتبة الأولى قبل مكياجها، والطالب ليس من المهم إن كان يحمل معه كتبه ودفاتره التي تحتوي على الوظائف المحلولة مادام هاتفه الخليوي من الجيل الجديد ويحوي كل أنواع التنافر الاجتماعي (التواصل الاجتماعي) من فايبر وماسينجر وواتس أب ويمكن أن يلتقط الصور بوضعيات مختلفة مباشرة كما هو معتاد أو (سيلفي) كما يحلو للكثيرين.

زوجتي التي بدأت تتثاءب وهي تنهي كأس المتة العاشر، نهضت مودعة جلستي بابتسامتها المعتادة، وشاكية لي همّها من أن الأعمال المنزلية باتت تتعبها أكثر من ذي قبل، ودون أن تدع لي فرصة التفكير باستقدام زوجة ثانية لمساعدتها في ذلك استدركت تململها بالقول بأنها تعتبر هذه الأعمال من الرياضات المحببّة لها.

ما إن غادرتني وسمعتُ صرير السرير في غرفة نومنا حتى أسرعت إلى هاتفي الخليوي وفتحته بكل ما أحمل من لهفة للتنقّل بين صفحات الفيسبوك والتعليقات، ففوجئت بأكثر من طلب صداقة كانت (الياسمينة الحزينة) من بين طالبي صداقتي ولأني مولع برائحة الياسمين فقد أسرعت في قبول طلب الصداقة وأبرقت لها فوراً على صفحتها المزيد من عبارات الشكر والامتنان على الثقة بصفحتي وبآرائي، وبالطبع بادرت هي أيضاً إلى شكري على قبولي صداقتها وهكذا، في غضون دقيقة أصبحنا أصدقاء ثم في اقل من ساعة كانت الحميمية تتسلل من شاشة الحاسوب إلينا معاً!!

في البداية خاطبتني بكلمة صديقي وأعربت لي عن قناعتها بالصداقة، وأكثر من ذلك لقد حدثتني عن ثقتها بأصدقائها أكثر من والدتها أو والدها أو حتى إخوتها أو حتى زوجها الذي يتجاهلها ويقضي ساعات مع أصدقائه عبر الفيسبوك.

لكن بعد قليل تبدّلت كلمة ( صديقي) إلى (عزيزي)، وفي اقل من ساعة أصبحت تقول لي (أيها الغالي)، ثم تحوّل كل شيء دفعة واحدة إلى (حبيبي)!!.. هنا كانت الطامّة الكبرى فالياسمينة التي حدثتكم عنها قالت إنها تعرفني، ولكن لظروفها الخاصة والشخصية لن تتمكن من كشف اسمها الحقيقي، وأكثر من ذلك لقد فاجأتني أنها تراني كل يوم.. وكلما خرجت من منزلي أو وقفت على شرفتي.

انتابتني القشعريرة وأحسست أن هذا سيجعل حركتي مكشوفة لمن أجهلها ولا أعرف أي شيء عنها، وفكّرت للحظة ونحن في هذه الظروف التعيسة وهذه الحرب الظالمة أن  هذه الياسمينة لا تشبه ياسمين دمشق بشيء.. ياسمين سورية فوّاح لا يخفي رائحته الرائعة ويتباهى بلونه الأبيض النقي والطاهر.. ياسمين دمشق يزيّن شرفاتنا ويدخل الطمأنينة والفرح إلى نفوسنا كلما عبرنا تلك الشرفات. أمّا هذه الياسمينة فيمكن أن تكون بيّاعة للهوى في سبيل اقتيادي إلى مكان ما، وهناك يمكن المساومة عليّ في سبيل الحصول على مبالغ مالية، كما حدث مع أشخاص كثر عندما انصاعوا للهوى واتبعوا فتيات فيسبوكيات تارة وتارة من الواقع، ليكون الخطف هو النهاية.. يا إلهي!! هل ألغي الصداقة أم ماذا أفعل؟!

ولنفترض أن هذا حصل وطلبت هذه الياسمينة أو من يقف وراءها فدية من أهلي لإطلاق سراحي، فما هو المبلغ الذي تملكه العائلة لتدفعه في هذه الظروف ونحن نتحايل على أسطوانة الغاز كي تعبر بنا نهاية الشهر؟!. ماهو المبلغ الذي تملكه العائلة وهي تحلم بقضاء يوم عطلة في منتزه عام تصنيفه نصف نجمة؟!. هل يستطيع من يعجز في الشهر عن دعم معدته ومعدة العائلة بنصف كيلو من اللحمة أو كيلو موز، دفع أي فدية لإطلاق سراحي ياترى؟! إذً سيكون مصيري كما كان مصير من سبقني إلى  عشق فيسبوكي كهذا، وسيعثرون عليّ في مكان لا يتوقعه أحد وهنا اتخذت القرار بالتراجع عن قبول صداقتها وإخبارها بأن صفحتي مراقبة ومن الأفضل ألا تدخل إلى حياتي الفيسبوكية مرة ثانية حفاظاً على اسمها الوهمي.

أجل.. لقد كان القرار ان اتراجع عن قبول صداقتها وأكثر من ذلك لقد قررت أن اتنكّر احياناً واغيّر مواعيد خروجي والطريق المتبع إلى منزلي ولا اخفيكم انني كنت اقضي وقتاً على شرفة منزلي أراقب النوافذ التي قد تخفي خلفها تلك الياسمينة الحزينة لكنني فشلت في اكتشاف ذلك.

وبمعزل عن هلوساتي الفيسبوكية وصداقاتي الوهمية وخيباتي اليومية الستم معي بأننا اليوم نرى بأم العين كيف أصبح الفيس بوك والمواقع الالكترونية الأخرى هي المستقى الذي ننهل منه معارفنا ونقيم بواسطته صداقاتنا وعلاقاتنا فما الحاجة إلى قول الشاعر ( قفا نبكي) بينما لدينا هنا شاعرة لا تكف عن البكاء ليل نهار على حيطان الفيس؟. وهنا شاعر آخر لا يكف عن التغزّل بصدر حبيبته في جملة واحدة يحصد عليها من الاعجابات والتعليقات مايفوق الاعجاب والتعليق على ماجادت به قريحة عنترة وامرؤ القيس؟!. الستم معي بأننا نفشل في التواصل مع اهل بيتنا ومع جيراننا في البناية نفسها وفي الحي نفسه ونسعى للتواصل مع صداقات ما انزل الله بها من مصداقية؟!. هل هو الهروب من زيف حقيقي يرتديه البعض أم أنه نوع من الخلل النفسي لدى البعض الآخر؟!

لقد عرّتنا هذه المحنة التي نمرّ بها الآن إذ كشفت لنا أننا كنا دائما بعيدين كل البعد عن مصدر المعلومة الحقيقي مغرمين بإعلاء شأن (تشيخوف) مثلاً وفينا من لم يحفظ عنوان كتاباً من كتبه!. كشفت هذه المحنة أن أكثرنا مُدّعو ثقافة وفكر وما مرّ بتاريخنا الحديث من شعراء وكتاب ومفكرين لم تكن لنتاجاتهم كبير أثر على الأجيال التي من المفترض أنها كتبت من أجلهم.

أجزم انه لو كان لمؤلفات الكثير منهم أي أثر فعلي وحقيقي في الأسرة والشارع والمدرسة والأماكن العامة لما رأينا مارأيناه ونراه اليوم من شباب يتركون جنة العقل ليلتحقوا بأول بوق جاهلي يصدر عن حثالة هذا العصر. الستم معي بأن حاجتنا اليوم لإعادة تدريس الفكر العربي بمؤلفاته التي تنير العقل وتبهج الروح باتت ملحة أمام ما نراه من ردة نحو علوم فاسدة وأفكار متخلّفة أقل مافيها أنها تبيح دم الأخ وانتهاك حرمة وكرامة وشرف الأوطان؟!. فلنسرع إلى ذلك.. ربما كان هناك من بقيّة باقية!!

العدد 1105 - 01/5/2024